المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة قصيرة بعنوان تجاعيد شامخة



يـآس
04-11-2006, 12:57 PM
تجاعيد شامخة










تحت ظل شجرة السدر العتيقة..جلست تفترش سجادةً حمراء قديمة..و بيدها المليئه بالعروق فنجان قهوة تفوح منها رائحة الهيل و الزعفران.. لم تكد العجوز تنهي فنجانها حتى قبل رأسها و جلس بجانبها.. ممسكاً بيدها الأخرى
ليقول لها بابتسامة:
-مال القمر يجلس وحيداً؟

العجوز و هي تنظر اليه شذراً بعينان احاطهما برقع نيلٍ لامع
-لا قمر يطلع عصراً

قهقه و هو يقبل يدها
- اعلم انك غاضبةٌ مني..لكني والله كنت مشغولاً بأمور المزرعة
-
اخذت ترتشف القهوة ببطء متجاهلةً إياه لبرهة من الزمن..ثم و بنفاذ صبر..وضعت فنجانها الخالي و الذي ملت من التظاهر بأنها ترتشفه..
- ما هذا بعذر..فلديك اليوم بطوله..الم تجد دقيقةً تمر فيها على أمك.. إننا نسكن بيتاً واحداً!!فأين العذر بالله الذي سيعفيك من ذنبك!!
-
اطلق تنهيدةً حارة و هو يفكر في كلمةٍ ترضي هذه الأم الغالية..وضع رأسه في حضنها و هو يتظاهر بالبكاء بصوتٍ مضحك مقلداً الاطفال الصغار
-إن لم تسامحيني فسوف لن أذهب الى المدرسة غداً

اخذت العجوز تضربه على كتفه كابتةً ضحكة كادت تفلت من شفتيها
-قم!! قم عني!! أي مدرسةٍ تلك التي ستقبل بك يا أربعين سنةٍ و نصف

قام عنها و هو يقول
-أتعايريني بالأربعين..يا.........اعجز عن عدهن والله!!

انفجرت العجوز ضاحكةً
-لا حول و لا قوة الا بالله!! انا أمك ..فلتمسك لسانك السليط هذا

عاد لتقبيل يدها و على وجهه امارات الرضى
-لا عدمت هذه الضحكة..نعم..انتي أمي التي لا أحتمل غضبها..فلتسامحيني..انا اعلم اني مقصر

نظرت اليه في حب و هي تقول
-اني راضيةٌ عنك يا بني..راضيةٌ عنك الى يوم الدين

قام و هو ينفض عن ثيابه غبار السجادة القديمة التي ترفض عجوزه التخلي عنها فوالده من اشتراها
-سأذهب الآن الى المزرعة و انا مطمئن البال

ذهب..

و جلست العجوز تفكر..في ابنٍ آخر..تشتاق أحضانها لضمه..ابن..لم تره منذ 20 سنة..آه يا عبدالله..
أرضعتك سنة كاملة..و ربيتك كما لو كنت ابني و احتويتك..فيما امك منشغلةٌ بالبكاء على ابنها الاخر الذي مات
و كنت تناديني بأمي..و لا تنام الا بين ذراعي..و لا تأكل الا من يدي..
فدتك روحي..والله انك هنا..بين أضلعي..أذكر خطواتك الأولى و كلماتك الأولى
أذكر تفاصيلك كلها..الى ان بلغت العاشرة..و بعدها.. بدأت تبتعد !!
انتقلتم الى بيتكم الجديد..و زياراتك انت وامك بدأت تقل..و مدة زياراتكم بدأت تتقلص..و حتى عندما كنت ازوركم..لم تكن هناك!! ولا أمك كانت ترحب بي كسابق عهدها!! فلماذا يا عبدالله..لماذا يا ابني!
اذا كانت هي نست صديقة عمرها و جارتها..فكيف انت تنسى امك..
لا..لا ألومك..فلم تكن سوى طفل..لا ألوم سوى مريم التي تغيّرت منذ أن منّ الله على زوجها بالرزق..صحيح ان راشد كان من علية قومه..الا انه ازداد علواً يوماً بعد يوم..و ابتعد عنا نحن جيرانه..يوماً بعد يوم كذلك
المال لا يغيّر سوى ضعاف النفوس..بيني و بينك الله يا مريم..بيني و بينك الله..أهكذا تنسيني..كنت اكثر من أختٍ لكِ..و كان أبنائك كأبنائي.. اعطيتك من وقتي ما لم اعطه لزوجي و أبنائي..اشفقت عليك من حادثة موت ابنك المؤلمة تلك
فانهلت عليكِ و على ابنائك بالرعاية و الاهتمام..من باب ان لا اخوات و لا ام لكِ..اشفقت عليك لانك عشتي يتيمة ..
ولانك كنتي تصغريني بخمسة عشر سنة..شعرت بالمسؤولية تجاهك
اه يا مريم..لم تكوني بحاجتي..لم تكوني بحاجتي..فها قد التئمت جروحك و طرتي..طرتي بعيداً
حيث لا نراكِ

- عمتي..عمتي
انتبهت العجوز الى زوجة ابنها التي لم تشعر بأنها قد جلست الى جانبها
-مالك يا عمة؟
ابتسمت العجوز و اشارت بيدها الى شجرة السدر التي تعلوها قائلة
-الا ترين ان ظل هذه الشجرة ممتدٌ كثيراً..فمن بحاجة هذا الظل كله!!
-السدرة!مالها!!
-دعيك منها..أين أبنائك! ذهبت للنوم عند الثانية ظهراً و هم يشاهدون التلفاز وها هي ذي الساعة الخامسه وهم لا يزالون أمامه..سيأتي هذا التلفاز على انظارهم و اذهانهم .
نهضت زوجة ابنها لتناديهم دون ان تعلق على كلام العمة ..يبدو انها متضايقة..لكن من ماذا يا ترى!!..
لعل الاطفال يسلونها قليلاً
جلس الاطفال حولها.. ولدان و ثلاث بنات..الاخيرة منهن كانت تلعب بشعرها المنكوش..فنظرت اليها العجوز و هي تهز يدها مشيرةً الى البيت
-هيا..هيا اذهبي و اجلبي لي مشطاً و شيئاً ادهن به هذا الشعر المتطاير
قالت الفتاة ذات الثمان سنوات
-تدهنين به ماذا!! جدتي!! ان المعلمه تغضب حينما ترى هذا الذي تضعينه على رأسي
-لا ..لا..ليست المعلمة..انها انتي التي لا تريدين ان تلجمي هذا الشعر
نظرت الفتاة الى امها علها تساعدها
فقالت الأم
-عمتي..ان المعلمات لا يستسغن رائحته و شكله..ثم ان عليا تلعب في الفناء كثيراً و حينما يكون شعرها مدهوناً تلتصق به حبات الرمال و الغبار بسهولة
أخذت العجوز تتمتم بكلماتٍ لم يفهمها من حولها..لكن ..و من خلال تعابير وجهها يبدو ان الأمر لم يعجبها
جلس الاطفال بجانب جدتهم التي على الرغم من قناع الحزم الذي ترتديه غالباً الا انها تغرقهم بحنانٍ و اهتمام يجعلهم أسيري حبها..

كانت تقص عليهم قصة وعدتهم بإكمالها حينما غلبهم النوم البارحة...و بينما هي كذلك
دخلت إمرأةٌ يطرق صوت كعبها الدقيق أرض الفناء الصغير..وقفت عند السجادة
-السلام عليكم
العجوز و زوجة الابن
- و عليكم السلام
قامت زوجة الابن لتحيي المرأة..أما العجوز فأشارت للمرأة بأن تجلس بجانبها لتحييها قائلة
-حياك الله..و لتسامحيني يا ابنتي فلي ساقين ضعيفتان
لكن المرأة النحيلة قالت
-لا شكراً..أنا مستعجلة..أتيت لأسلمكم هذه البطاقة..هي من بيت راشد بن عبدالله النهّام
قالت حينها زوجة الابن..وهي تنظر الى العجوز بتردد..
-فلتعذروني سأذهب بهؤلاء الشياطين علّي اقنعهم بأن يفتحوا كتبهم قليلاً
و اتجهت الى الداخل مسرعةً..فهي لا تريد عمتها أن تحرج المرأة امام انظار أطفالها الذين لا تفوتهم واردة و لا شاردة..
عادت العجوز بانظارها الى المرأه التي تمد يدها بالبطاقة..تجاهلت العجوز البطاقة الممدوة إليها..وقالت متفحصةً المرأة
- بونهّاش؟
..ارتبكت المرأة
-لا يحب أن يناديه أحد بهذا الاسم..استودعكم الله..فأنا على عجل..و أتمنى حقاً ان تحضري
و رمت البطاقة بجانب العجوز على السجادة..ثم خطت مبتعدة..و قبل ان تصل الى الباب..هتفت العجوز بصوتٍ ناقم
-خزينة!! خزينة!!
كادت المرأة ان تتعثر و تقع على وجهها و لكنها نجحت في البقاء على توازنها..التفتت للوراء..و عادت مسرعةً لتقبل رأس العجوز
-عمتي..عمتي ..فلتسامحيني..انا..انا لم
-انتي ماذا!! أكنتي تظنين اني قد اصبحت عجوزاً قد طال دماغها الخرف!! و اني لن اعرفك في هذه الثياب و هذا الكعب و هذا البرقع الذي لا يوازي حجم برقعك القديم سوى بالربع!!
فتحت المرأة فمها لتتكلم..الا ان العجوز قاطعتها مرةً اخرى
- اخلعي عنكِ مدق القهوة هذا و اجلسي بجانبي لآخذ اخبار سيدتك ..اعني سيدتنا مريم
جلست المرأة و هي تفكر..نعم..جلسة عتاب مطوّله..نعم.. هذا جل ما احتاجه ..
-عمتي مريم في أفضل حال..و قد أمرتني بتسليمك هذه البطاقة شخصياً..و الحرص على ان تأتي
أخذت العجوز تصب فنجان قهوة للمرأة و ناولته اياها قائلة
-لو كانت مريم تهتم لحضوري..لأتت بنفسها لتدعوني..و ماذا هناك؟ هل ستزوج احدى بناتها؟
-لا يا عمتي..انه زفاف عبدالله..سيتزوج ابنة سلطان بن حاسوم..لا بد و انك قد سمعتي به
ابتسمت العجوز التي لم تنتبه سوى ل(انه زفاف عبدالله)..و أخيراً سيتزوج عبدالله..قد طالت عزوبيته لدرجة اني قد خفت ان يكون له علقةً في الخفاء
-كيف اصبح يا خزينة!! كيف اصبح عبدالله؟
-ما شاء الله..ما شاء الله..زينة الرجال

نهضت المرأة و هي تنظر لساعتها قائلة
-فلتسامحيني..فعليّ تسليم الكثير الكثير من البطاقات..و ارجوك..ارجوك بكل من تحبين..ان تأتي لزفافه.
-لماذا!! نستني عمتك و ابنها الذي ربيته كواحدٍ من ابنائي..نسوني حينما عجزت ركبتاي عن حملي لهم ..و قد تعبت من زيارة من لا تهمه زيارتي..فلماذا احضر زفافه!
-لا يا عمة..فليكن قلبك ابيضاً..و لترمي هذه الافكار ورائك..فوالله اننا مشغولون..فعمي راشد يفاجأنا كل يومين بعزومة..بل ان مجلسه لا يخلو من الرجال..و عمتي مريم كحاله..لا تكف النساء عن زيارتها.

فكرت العجوز..اتبيعيني اعذاراً يا خزينة!! قد اتيت لزيارتكم مراتٍ عديدة في الصيف..فلا أجد سوى حارس يبلغني بسفركم الى لندن..تجهزون حقائبكم و تحجزون مقاعدكم الى لندن..و انا..انا من تبعد عنكم بضع شوارع..تعجزون عن زيارتي!

-عمتي فاطمة..يجب أن تأتي فقد أوصتني العمة مريم على أن ألح عليك بالقدوم..
-و كيف يكون ذلك؟ بأن ترمي البطاقة في وجهي يا خزينة و تجري للباب
-أرجوك..سامحيني كنت على عجل..فلتسامحيني يا عمة..
و انهالت على رأس العجوز تقبله
-كفى..كفى..سآتي..سآتي
-جبرالله بخاطركِ..و الآن..سأذهب..و لتسامحيني
-مالها الخلق كلها تستسمح مني اليوم!!

و خرجت خزينة على انغام كعبها الدقيق..خزينة..خادمة بيت راشد ..من يقول ان هذه هي خزينة تلك!! سبحان مغيّر الاحوال!!

عادت الفتيات الى الفناء و ما أن وقعت عينا إحداهن على البطاقة حتى أخذت تقلبها معجبةً بالشرائط التي تلفها و الزخارف الجميلة التي تزيّنها..كانت تحتوي على خريطة لموقع الحفل و بطاقتان..بطاقة لحفل الرجال..و اخرى لحفل النساء
تركت الابنة الكبرى تقليب البطاقة مع أخواتها و جلست أمام العجوز..كانت تفهّم ما يدور..فلطالما سمعت والدها و عمها يتحدثان..هي تعلم..فعلى الرغم من ان الجدة تتحدث دوماً عن عبدالله بحب..الا انه جرح عميق..لم يندمل بعد
-جدتي..هاه..هل ستذهبين؟
- لا أعلم يا ابنتي
- و لكن!! هذا عبدالله..هذا الغالي..هذا الذي أسميتي أخي باسمه..
و فكرت الفتاة..هذا عبدالله الذي لطالما حدثتنا عنه..حتى شعرنا انه كان دوماً هنا..بيننا
اغرورقت عينا العجوز بالدموع..انه اغلى مما تظنين يا ابنتي.أكاد الموت شوقاً لمعرفة كيف هو الآن
-هل رأيت أماً يا حصه يُبعث اليها ببطاقة دعوة لتحضر زفاف ابنها!!
كانت زوجة الابن تقف بالقرب منهم..فقالت
-إن الله أمر بأن نصفي قلوبنا و ننقيها..فلتسامحيهم يا عمة..فلتكن هذه بداية خير..و حبل وصلٍ لا ينقطع
-.. حبل وصلٍ لا ينقطع!! لم أقطع الحبل يوماً يا ابنتي!! هم..هم من افلتوه .و تركوني ممسكةً طرفه بأمل..و مرت السنة تلو السنة..فاهترأ الحبل يا ابنتي..اهترأ و تفتت
..و لم تكد العجوز تنهي حديثها حتى علا صوت الأذان منادياً لصلاة المغرب
انفض الجميع عن السجادة الا العجوز .. جلست وحيدةً تفكر..فيما مضى




.

يـآس
04-11-2006, 12:59 PM
كانت الاسرة في حالة من الترقب و الفضول حتى انقسموا الى فريقين..فالأب و بناته متأكدين ان العجوز لن تذهب
أما الأم و اولادها كانوا مصرين على انها..ستذهب..فالأم أم مهما طالت سنوات الجفاف و الجفاء
اما العجوز..فظلت صامتة..غامضة..حتى جاء يوم الثلاثاء و أخرجت فيه كيس الحناء..و قامت بعجنه استعداداً لتخضيب يديها
و أرسلت في طلب ذهبها الذي قد استعارته احدى حفيداتها لتلبسه في حفلٍ مدرسيٍ تراثي الطابع
و في المساء..نظرت الأم الى الأب و بناته بابتسامة خبيثة (الم اقل لكم انها ستذهب)

وصل يوم الاربعاء..و العجوز تعد ساعاته الطويلة التي قضت بعضها في تعطير ثوبها و تبخيره بالعود
و عندما حان الوقت..كانت قد ارتدت عبائتها الحريرية الخفيفة اللامعة التي تحجب تحتها ثوباً اخضراً غامق اللون
و بيدان مخضبتان بالحناء العربي اخذت تمسد اطراف الثوب كطفلةٍ في يوم عيد
ابتسم ابنها قائلاً
-ما هذا يا أمي..سأذهب بك الى المتحف!!
رمقته كالعادة بطرف عيناها و اخذت تبحث عن عصاها..و اتجهت الى الخارج تتكأ عليها متجاهلةً دعابته..

كانت قد انتقت مرافقها..حفيدها عبدالله..اكثرهم هدؤاً و ادباً..هو خيرمرافق لحفلات الزفاف..فهو لا يصول و لا يجول في ارجاء القاعة..ثم انها تريد ان تريه عبدالله الكبير
كان الصبي على اتم الاستعداد فقد ارتدى ثيابه و كانت بيضاء ناصعة..
حرصت الأم على تعطيره و أمرته الا يخالف العجوز و ان يجلس على الكرسي المجاور لجدته لا على حجرها كعادته..فهو يتعبها بوزنه..ركبت مع ابنها السيارة..و توجهوا الى الحفل..

كانت طوال الطريق تحدث نفسها كيف ستلاقيهم..و كيف ستعاتب مريم و بناتها على هذا الانقطاع..و كيف ستحضن عبدالله....عبدالله!! و اخيراً سأراه..
فكرت في أنها ستخبره..ستخبره بأنه و إن نسيها.. لم تنسه يوماً..فقد كانت تذكره كل ليلة قبل ان تغفو..و كانت تدعوا له مع كل صلاة
و لم تكد تمر الدقائق حتى وصلوا الى مكان الحفل المهيب ,كانت الاضواء تنير المكان
و على الرغم من كون قاعة الرجال معزولة عن قاعات النساء إلا ان صوت العيّالة و الحربية يلامس الاسماع..كما كان المكان مزدحماً بالسيارات..أحست العجوز و الصبي بالإثارة حالما تقدم أحد الحراس عند بوابة الحفل ليرى بطاقة الدخول..و حالما رآهم..اشار لهم قائلاً
-توجهوا الى البوابة رقم 2..فهذه البوابة لكبار الشخصيات
لم تفهم العجوز ما قال..و لم يرد ابنها ان يفسر لها ما قيل..و قبل ان يغلق نافذة السيارة سألت العجوز بصوتٍ عاليٍ
-اليست نفس القاعه
قال الحارس
-نعم لكن المدخل مختلف..فهذا لكبار الشخصيات يا خالة
فقهقهت العجوز قائلة
-وذاك لصغار الشخصيات!!
ضحك الحارس و هز كتفيه
-هكذا هي الدنيا يا خالة. وصلت العجوز الى القاعه و خطت الى الداخل بشموخ يتقدمها صوت عصاها..يتبعها الصبي محاولاً التصرف بأدب..دخلت الى المدخل الذي يكاد يوازي في حجمه حجم غرفتها..كانت الارض الرخامية تلمع بشدة و الجدران مطعمة بلوحات جميلة تناثرت هنا و هناك..و في المنتصف كان الباب الضخم المصنوع من أغلى انواع الخشب وباقاتٌ ضخمة على جانبيّ الباب..كل ما في القاعة ينبض بالفخامة و الرقي..لم يكن اول زفافٍ تحضره العجوز..الا ان هذا..كان مختلفاً..و استطاعت العجوز ان ترى من خلال ذلك الباب المدعوات اللاتي تشبه ثيابهن أضواء الزينة المحيطة بالقاعة
فكانت القاعة تموج بألوان فساتينهن البراقة و أعناقهن و اطرافهن تلمع بمجوهرات ٍمعقدة التصميم في نظر العجوز..و كن في مشيهن يصدرن رنة كرنة كعب خزينة يوم جاءت تزورها.

ما إن كادت تدخل..حتى اوقفتها امرأة يبدو انها تحرس باب القاعة
- يا خالة..أين البطاقة؟
- البطاقة؟ و ما حاجتك بالبطاقة؟ لقد اريناها لذلك الحارس عند البوابة الكبيرة
هزت المرأة رأسها قائلة
- لا يا خالة..كان يجب ان تجلبيها معك..آسفه..لا استطيع السماح لك بالدخول
- يا ابنتي لست متسللة اعراس..فاتركيني امر بارك الله فيكي
-سامحيني يا خالة لا استطيع
ضربت العجوز بعصاها الارض نافذة الصبر
- فلتدعيني امر يا ابنتي..قد تركت البطاقة في السيارة لم اعتقد انكم في حاجتها

كانت احدى السيدات تتذمر من الوقوف خلف العجوز و تريد المرور
أخذت المرأة منها البطاقة و ادخلتها و تلتها اخرى ثم اخرى..و العجوز والصبي يقفان لا يعرفان ما العمل..
اخذت العجوز تلوم نفسها..فما كان يجب ان تترك البطاقة..و احست بالاحراج من نظرات المدعوات اللاتي يمرن بها
فقالت في محاولة اخيرة
- يا ابنتي اسمعي مني
- والله يا خالة لو كان الأمر بيدي لأدخلتك و لكني مأمورة و محاسبة عن كل من تدخل و لو حدث خطأ فالعقاب سيقع على رأسي
- عن أي خطأ تتحدثين يا ابنتي!! هذا زفاف ابني عبدالله...ارضعته سنه و ربيته عشراً..ثم كيف سأكون هنا لولا البطاقة
قالت المرأة في أسف
- لا استطيع..سامحيني
نظرت العجوز الى داخل القاعة بعينٍ مكسورة و قالت
والآن ما العمل!! السيارة قد ذهبت فبالله عليك اين اذهب!! فلتنادي لي ام عبدالله..فلتنادي لي مريم
- لا يا خالة هي مشغولة باستقبال الزوار في البوابة رقم 1..و لكن انتظري ..لعل احدى قريبات العروسين تمر و أسألها.

أخذت العجوز تجوب بعيناها القاعه متسائلة!..من هؤلاء النسوة..لا اعرف أياً منهن..يبدو ان مريم قد غيرت حتى معارفها
و طال الانتظار بالعجوز لساعة أو اكثر....

- اسمعي يا ابنتي..والله ما عدت اريد ان احضر هذا العرس..فلتجلبي لي ماءًً لأتوكل خارجةً و ابحث لي عن من يقلني للبيت
- الن تتصلي بالبيت!!
ضحكت العجوز قائلة
- لا اعرف كيف اتصل و لا احفظ رقماً يا ابنتي.. فما حاجتي بالهاتف!
- حسناً حسناً..اسمعي يا خالة..قطعت قلبي والله..لدي فكرة..لكني لا اعلم ان كنتي ستقبلين بها..
- هاتي ما عندك.
- اخرجي من هذا المدخل و على الطرف الاخر من القاعه على اليمين مباشرة ستجدين باباً..باب الخدمة.. تصرفي بطريقة توحي بأنك من اهل العروسين و قد أتيتي لتفقد سير العمل..و لا تخافي فالكل مشغول و قد لا ينتبه احد الى وجودك اصلاً
- هل تظنين!!
- جربي يا خالة..فلن تخسري شيئاً

اتجهت العجوز لباب الخدمة يتبعها الصبي و هو يسألها
- جدتي..جدتي لماذا لا يريدوننا؟
- لا ياعيني..هم يريدوننا لكننا نسينا البطاقة في السيارة
- و لماذا لا يريدوننا بدون البطاقة؟
- تعال معي..ان شاء الله سندخل و سنجلس و عندها لي حديثٌ مطوّل مع ام عبدالله
خرجت العجوز و الصبي متشبث بطرف عبائتها..و قد كانت المرأة صادقة..فالباب كان مفتوحاً و يعج بالخدم و الحركة..الا ان المسافة لم تكن بقصيرة على عجوزٍ و صبي سريعي التعب
دخلت العجوز على عجل حتى لا ينتبه احدهم اليها..و في الداخل لم يعترضها احد..فالكل كان مشغولاً..و اخذت تمر و تفتح الباب تلو الباب الى ان وصلت مدخل القاعة الذي تدخل و تخرج منه المضيفات حاملاتٍ صواني ملئى بانواع العصائر المختلفة و اخرى تزخر بأنواع الحلويات و المعجنات
..و رائحة العود و العطور تفوح من وراء ذلك الباب
حثت العجوز الخطى..لا رغبةً في حضور العرس.. وانما لتريح قدميها و قدمي صغيرها من عناء وقوف و مشي طال بهما .

ظنت العجوز انها حالما تفتح الباب ستكون في القاعة مباشرة..الا انها حينما فتحته كانت هناك ستارة ضخمة تدخل من خلالها المضيفات و تقف امرأة ترتدي ثياباً مشابهةً لتلك التي على البوابة..مرت العجوز بجانبها و ما أن فعلت حتى وقعت انظار المرأة عليها ووقفت تسد الطريق أمامها..حالما فتحت العجوز فمها لتتحدث..حتى اشارت لها بالخروج ثم فتحت الباب في إشارة الى حتميته...خرجت العجوز يتبعها الصبي ..و بدون ان تحاول الحديث معها ..خرجت تجر عبائتها و حفيدها المنهك يتبع خطواتها المكسورة
ها هي ذي خارج تلك القاعة..تقف على اطراف الشارع تبحث عن سيارة أجرة تعيدها لأبنائها
اهٍ يا عبدالله..ليتني بقيت في البيت و حفظت ماء وجهي..ليتني لم اقبل تلك الدعوة الزائفة الرجاء
اخذت تمشي هي و حفيدها الى ان ابتعدوا نسبياً عن مكان الحفل
و هي تمشي..إذا بسيارة سوداء مظلمة النوافذ تمر بجانبها مسرعة..ثم.. فجأة.. وقف صاحبها و عاد الى الوراء..حيث العجوز و الصبي.

يـآس
04-11-2006, 01:00 PM
كان شاباً بشوش الوجه..سمح القسمات..
- مالك يا خالة تقفين على طرف الشارع!!
- لا شيء يا ابني..لاشيء..هل ترى سيارة اجرة تقلني انا و حفيدي المتعب هذا!!
- لماذا يا خالة؟ الن تحضري العرس؟
- قد حضرته يا ابني..قد حضرته..و حان الوقت لأعود الى بيتي.
- باكراً هكذا!!..على العموم..تفضلي..سأقلك الى البيت.
- لا لا يا بني..فقط اقلني الى الشارع العام..
- أين تسكنين يا خالة؟
- في المسعودي يا بني
- انها قريبة جداً..تفضلي يا خالة..
- بارك الله فيك..بارك الله فيك.. و حفظك لأهلك
و فتح لها الشاب الباب الامامي..فركبت العجوز و الصبي كذلك
قال الشاب للصبي
- ما هذا يا رجل!! فلتركب في الخلف..جدتك تعبة..لا تحتاجك على ساقيها
ضحكت العجوز و لم تمانع في ان يركب عبدالله في الخلف..فهي فعلاً تعبة و لا تستطيع تحمله على ركبتيها.

اتجه الشاب بهم للشارع العام..
قال محاولاً فتح موضوعٍ يحدث به هذه العجوز المسكينة
- كنا نسكن المسعودي
هزت العجوز رأسها
- كل أهل المسعودي القدامى قد غادروها يا بني..فلم يبقى من اهلها غيرنا نحن..اما باقي البيوت.فهي للأيجار الآن..و لا نعرف من ساكنيها أحد
-و لماذا لم تنتقلوا انتم كذلك يا خالة
- ابنائي جميعهم قد انتقلوا..و حتى ابني هذا الذي معي في البيت..قد بنى بيتاً و طلبت منه ان ينتقل فهذا البيت شعبيٌ و صغير.. لكنه رفض ان يغادر الا بي..و انا يا بني..لا اطيق فراق ذلك البيت..
-نعم..ان تلك البيوت لها طعم آخر..كم اشتاق اليها..و الى اللهو في تلك الحارة الصغيرة المتقاربة الجدران
نظرت اليه العجوز و هي تفكر..انك تذكرني بشخصٍ ما!!
-عبدالله؟
التفت اليها الشاب..و في نفس الوقت اجاب حفيدها قائلاً
-نعم يا جده
-هل انت تعبٌ يا صغيري؟
-لا يا جدة..انا بخير
ابتسمت العجوز قائلة للشاب
- عبدالله.. حفيدي..قد اسميته على ابني
-ابنك؟؟ على عمه اذاً
-نعم..عمه الذي لم يره يوماً
-رحمه الله
شهقت العجوز
-لا..أمد الله في عمره و بارك فيه
عقد الشاب حواجبه مستغرباً
-كيف لم يره!! اين هو!!
-انه ابني الذي لم تلده بطني


اغرورقت عينا العجوز بالدموع..لم تعد تحتمل..فجرحها الذي ظنت ان الزمان كان كفيلاً بشفائه ينزف من جديد
و كان في هذا الغريب شيئاً دفعها للكلام
- أرضعته سنةً كاملة..و ربيته اكثر من عشر سنوات..لا يزال صوته يرن في اذني و هو يناديني بأمي و مع الايام..ما عدت امه..فأخذ يناديني بالخالة.. نسي طعم حليبي..ونسيني..الا اني لم انسه يوماً
ادعو له بالخير في كل ليلة..و ارجو الله ان يعيده لي..و لو يوماً..فالأم يا ابني..لا تنسى ابنها..و ان نسيها عشرين عاماً
هزت الشاب دموع المرأة التي ما ان رآها على قارعة الطريق حتى احس بأنه يألفها
كيف لذلك الابن ان ينسى عجوزاً يشع وجهها حناناً هكذا..نظر الى مفرق شعرها الابيض الذي تتخلله المخمرية بلونها الفاقع و الى الحناء الذي خضبت به اطرافها و الى ثوبها التول الذي يبدو من تحت عبائتها الخفيفة
من يرتدي هكذا ثياب في ايامنا هذه!!
حتى الجدات ما عدن يفعلن.. انك يا خالة على ما يبدو متشبثة بجذورك كشجرة نخيلٍ أصيلة..
و عنيدة.. كعناد قلعة المسعودي القديمة تلك !!
بقائك في بيتك الشعبي و رفضك الرحيل .. تذكرك لابنٍ ليس من لحمك و دمك..ابن لم يذكرك خلال عشرين سنة!!
كل ذلك..كل ذلك يشي بوفاء نفسك و جمالها
نظر الى وجهها الذي يغطي نصفه برقعٌ ضخم!!و عيناها اللتان ستذرفان الدمع في أي دقيقة
هاتان العينان!!أين سبق لي أن رأيتهما!!
- لا تحزني يا خالة..هذه هي الحياة..نعطي..ثم يُجحّد عطائُنا..و اجرك على الله
- و نعم بالله..و نعم بالله..لكني وددت ان اراه ليلة زفافه
- و لماذا لم تفعلي؟
قفز الصغير الذي لم يحتمل الصمت اكثر من هذا..فقال بأسلوبه و بصوته الطفولي
- لم يدعونا ندخل.. نسينا البطاقة فطردونا..ثم دخلنا بالباب الخلفي..باب الخدمة كما قالت تلك السيدة..فطردونا كذلك..و جدتي لا تعرف رقم والدي و لا انا كذلك..فعدنا مشياً..
قاطعت الجدة حفيدها بنظرة غاضبة
ساد السيارة صمتٌ ثقيل..تضايقت العجوز..لم ترد شفقةً من أحد.. ليس من غريب..
ماذا سيقول؟؟ ان هذه العجوز ما ان جلست على مقعد سيارتي حتى بدأت تشكو لي حزنها؟
لم يتفوه الشاب بحرف طيلة الطريق..و ما ان وصلوا باب البيت..حتى نزلت العجوز و قالت للشاب
- فلتتفضل يا ابني..فلتتفضل..
لم تعد ملامحه بشوشة..بل كان يسودها الغموض..فقال و هو مطأطأ الرأس
- لا يا خالة..فلتسامحيني..عليّ العودة حقاً..
- تفضل لدقائق يا بني
- لا استطيع فانا..
- إن كنت مشغولا الليلةً..فغداؤك إذاً هنا غداً
- حتى غداً..إني..
و عادت لمقاطعته
- لا والله..إننا في إنتظارك غداً
تردد لثواني..ثم و بابتسامة
- و هو كذلك..غداً ان شاء الله
تهللت أسارير العجوز
- حفظك الله يا بني..إنك والله لشابٌ صالح..فليجزى الله خيراً من ربتك..
- نعم..سلمت يداها..في أمان الله
-في أمان الله

و ابتعد بسيارته و عينا العجوز تتبعانها الى ان غابت عن الانظار..
يا له من شابٍ طيب..حلو المعشر..ألفته بسرعه..من تراها ربت هكذا رجل!!
لا بد أني أعرف أهله..كيف لم أسئله!!..غداً سأفعل..
و بينما هي و حفيدها يتجهان الى البيت ..هتف الصغير فيها
- جدتي!!جدتي!!
- نعم يا عينا جدتك

- جدتي!!كيف عرف ذلك الغريب بيتنا!! فنحن لم نرشده الى الطريق؟؟



تمت

منقولة

مالك الحزين
04-11-2006, 01:03 PM
تسلم أخويه على القصة الرائعة

ولا تحرمنا من يديدك

صديقك الصدوق

مالك الحزين

يـآس
05-11-2006, 10:43 PM
تسلم مالك الحزين على المرور والرد
وان شاء الله نتواصل في كل ماهو مفيد وهادف

الموناليزا
05-11-2006, 11:21 PM
بارك الله فيك خويه

قصه هادفه معبره اندمجنا فيها

تسلم وكثر من هالنوع عجبني انها بالفصحى كلماتها جميلة ومعبره عن كل اللحظات التي مرت فيها

دمت بخير

يـآس
07-11-2006, 06:47 PM
تسلمين بونيتا على المرور الكريم
وفعلا قصه معبره وحلاتها انها بالفصحى .. وان شاء الله ان لقينا شي من هالقصص بهالنوعيه
فالج طيب ^_*

وربي يعطيج الصحه والعافيه

الحرف العنيد
07-11-2006, 10:58 PM
تسلم يالدلووووووع على هالقصة الفنانه


انته خبرتني عنها انها حلوة بس ماتوقعت اسلوبها وسردها حلو جذيه

وكثر منهن

جنون الحب
08-11-2006, 04:29 PM
وااايد حلوه القصه ومفيده

يسلمووووووو @ دلعوه اهله @

العيون السود
09-11-2006, 01:56 AM
تسلم اخويه على القصه
يعجبني هالنوع من القصص

الله يعطيك العافية

يـآس
09-11-2006, 03:35 AM
ترابيشو


جنون الحب



العيون السود


الف شكر على مروركم وعلى استحسان الذوق
وان شاء الله يكون في قصص من هالنوعيات في المنتدى
وبيد اعضائنا :)

طرفشانه
13-11-2006, 05:19 AM
دلعوه اهله

ما شاءالله عليك عرفت تختار ,,

الصراحه وايد حلوه وفيها عبره ,,

ومن اجمل القصص الي قريتا ,,

تسلم يمناك ولا هنت ,,