يـآس
04-11-2006, 12:57 PM
تجاعيد شامخة
تحت ظل شجرة السدر العتيقة..جلست تفترش سجادةً حمراء قديمة..و بيدها المليئه بالعروق فنجان قهوة تفوح منها رائحة الهيل و الزعفران.. لم تكد العجوز تنهي فنجانها حتى قبل رأسها و جلس بجانبها.. ممسكاً بيدها الأخرى
ليقول لها بابتسامة:
-مال القمر يجلس وحيداً؟
العجوز و هي تنظر اليه شذراً بعينان احاطهما برقع نيلٍ لامع
-لا قمر يطلع عصراً
قهقه و هو يقبل يدها
- اعلم انك غاضبةٌ مني..لكني والله كنت مشغولاً بأمور المزرعة
-
اخذت ترتشف القهوة ببطء متجاهلةً إياه لبرهة من الزمن..ثم و بنفاذ صبر..وضعت فنجانها الخالي و الذي ملت من التظاهر بأنها ترتشفه..
- ما هذا بعذر..فلديك اليوم بطوله..الم تجد دقيقةً تمر فيها على أمك.. إننا نسكن بيتاً واحداً!!فأين العذر بالله الذي سيعفيك من ذنبك!!
-
اطلق تنهيدةً حارة و هو يفكر في كلمةٍ ترضي هذه الأم الغالية..وضع رأسه في حضنها و هو يتظاهر بالبكاء بصوتٍ مضحك مقلداً الاطفال الصغار
-إن لم تسامحيني فسوف لن أذهب الى المدرسة غداً
اخذت العجوز تضربه على كتفه كابتةً ضحكة كادت تفلت من شفتيها
-قم!! قم عني!! أي مدرسةٍ تلك التي ستقبل بك يا أربعين سنةٍ و نصف
قام عنها و هو يقول
-أتعايريني بالأربعين..يا.........اعجز عن عدهن والله!!
انفجرت العجوز ضاحكةً
-لا حول و لا قوة الا بالله!! انا أمك ..فلتمسك لسانك السليط هذا
عاد لتقبيل يدها و على وجهه امارات الرضى
-لا عدمت هذه الضحكة..نعم..انتي أمي التي لا أحتمل غضبها..فلتسامحيني..انا اعلم اني مقصر
نظرت اليه في حب و هي تقول
-اني راضيةٌ عنك يا بني..راضيةٌ عنك الى يوم الدين
قام و هو ينفض عن ثيابه غبار السجادة القديمة التي ترفض عجوزه التخلي عنها فوالده من اشتراها
-سأذهب الآن الى المزرعة و انا مطمئن البال
ذهب..
و جلست العجوز تفكر..في ابنٍ آخر..تشتاق أحضانها لضمه..ابن..لم تره منذ 20 سنة..آه يا عبدالله..
أرضعتك سنة كاملة..و ربيتك كما لو كنت ابني و احتويتك..فيما امك منشغلةٌ بالبكاء على ابنها الاخر الذي مات
و كنت تناديني بأمي..و لا تنام الا بين ذراعي..و لا تأكل الا من يدي..
فدتك روحي..والله انك هنا..بين أضلعي..أذكر خطواتك الأولى و كلماتك الأولى
أذكر تفاصيلك كلها..الى ان بلغت العاشرة..و بعدها.. بدأت تبتعد !!
انتقلتم الى بيتكم الجديد..و زياراتك انت وامك بدأت تقل..و مدة زياراتكم بدأت تتقلص..و حتى عندما كنت ازوركم..لم تكن هناك!! ولا أمك كانت ترحب بي كسابق عهدها!! فلماذا يا عبدالله..لماذا يا ابني!
اذا كانت هي نست صديقة عمرها و جارتها..فكيف انت تنسى امك..
لا..لا ألومك..فلم تكن سوى طفل..لا ألوم سوى مريم التي تغيّرت منذ أن منّ الله على زوجها بالرزق..صحيح ان راشد كان من علية قومه..الا انه ازداد علواً يوماً بعد يوم..و ابتعد عنا نحن جيرانه..يوماً بعد يوم كذلك
المال لا يغيّر سوى ضعاف النفوس..بيني و بينك الله يا مريم..بيني و بينك الله..أهكذا تنسيني..كنت اكثر من أختٍ لكِ..و كان أبنائك كأبنائي.. اعطيتك من وقتي ما لم اعطه لزوجي و أبنائي..اشفقت عليك من حادثة موت ابنك المؤلمة تلك
فانهلت عليكِ و على ابنائك بالرعاية و الاهتمام..من باب ان لا اخوات و لا ام لكِ..اشفقت عليك لانك عشتي يتيمة ..
ولانك كنتي تصغريني بخمسة عشر سنة..شعرت بالمسؤولية تجاهك
اه يا مريم..لم تكوني بحاجتي..لم تكوني بحاجتي..فها قد التئمت جروحك و طرتي..طرتي بعيداً
حيث لا نراكِ
- عمتي..عمتي
انتبهت العجوز الى زوجة ابنها التي لم تشعر بأنها قد جلست الى جانبها
-مالك يا عمة؟
ابتسمت العجوز و اشارت بيدها الى شجرة السدر التي تعلوها قائلة
-الا ترين ان ظل هذه الشجرة ممتدٌ كثيراً..فمن بحاجة هذا الظل كله!!
-السدرة!مالها!!
-دعيك منها..أين أبنائك! ذهبت للنوم عند الثانية ظهراً و هم يشاهدون التلفاز وها هي ذي الساعة الخامسه وهم لا يزالون أمامه..سيأتي هذا التلفاز على انظارهم و اذهانهم .
نهضت زوجة ابنها لتناديهم دون ان تعلق على كلام العمة ..يبدو انها متضايقة..لكن من ماذا يا ترى!!..
لعل الاطفال يسلونها قليلاً
جلس الاطفال حولها.. ولدان و ثلاث بنات..الاخيرة منهن كانت تلعب بشعرها المنكوش..فنظرت اليها العجوز و هي تهز يدها مشيرةً الى البيت
-هيا..هيا اذهبي و اجلبي لي مشطاً و شيئاً ادهن به هذا الشعر المتطاير
قالت الفتاة ذات الثمان سنوات
-تدهنين به ماذا!! جدتي!! ان المعلمه تغضب حينما ترى هذا الذي تضعينه على رأسي
-لا ..لا..ليست المعلمة..انها انتي التي لا تريدين ان تلجمي هذا الشعر
نظرت الفتاة الى امها علها تساعدها
فقالت الأم
-عمتي..ان المعلمات لا يستسغن رائحته و شكله..ثم ان عليا تلعب في الفناء كثيراً و حينما يكون شعرها مدهوناً تلتصق به حبات الرمال و الغبار بسهولة
أخذت العجوز تتمتم بكلماتٍ لم يفهمها من حولها..لكن ..و من خلال تعابير وجهها يبدو ان الأمر لم يعجبها
جلس الاطفال بجانب جدتهم التي على الرغم من قناع الحزم الذي ترتديه غالباً الا انها تغرقهم بحنانٍ و اهتمام يجعلهم أسيري حبها..
كانت تقص عليهم قصة وعدتهم بإكمالها حينما غلبهم النوم البارحة...و بينما هي كذلك
دخلت إمرأةٌ يطرق صوت كعبها الدقيق أرض الفناء الصغير..وقفت عند السجادة
-السلام عليكم
العجوز و زوجة الابن
- و عليكم السلام
قامت زوجة الابن لتحيي المرأة..أما العجوز فأشارت للمرأة بأن تجلس بجانبها لتحييها قائلة
-حياك الله..و لتسامحيني يا ابنتي فلي ساقين ضعيفتان
لكن المرأة النحيلة قالت
-لا شكراً..أنا مستعجلة..أتيت لأسلمكم هذه البطاقة..هي من بيت راشد بن عبدالله النهّام
قالت حينها زوجة الابن..وهي تنظر الى العجوز بتردد..
-فلتعذروني سأذهب بهؤلاء الشياطين علّي اقنعهم بأن يفتحوا كتبهم قليلاً
و اتجهت الى الداخل مسرعةً..فهي لا تريد عمتها أن تحرج المرأة امام انظار أطفالها الذين لا تفوتهم واردة و لا شاردة..
عادت العجوز بانظارها الى المرأه التي تمد يدها بالبطاقة..تجاهلت العجوز البطاقة الممدوة إليها..وقالت متفحصةً المرأة
- بونهّاش؟
..ارتبكت المرأة
-لا يحب أن يناديه أحد بهذا الاسم..استودعكم الله..فأنا على عجل..و أتمنى حقاً ان تحضري
و رمت البطاقة بجانب العجوز على السجادة..ثم خطت مبتعدة..و قبل ان تصل الى الباب..هتفت العجوز بصوتٍ ناقم
-خزينة!! خزينة!!
كادت المرأة ان تتعثر و تقع على وجهها و لكنها نجحت في البقاء على توازنها..التفتت للوراء..و عادت مسرعةً لتقبل رأس العجوز
-عمتي..عمتي ..فلتسامحيني..انا..انا لم
-انتي ماذا!! أكنتي تظنين اني قد اصبحت عجوزاً قد طال دماغها الخرف!! و اني لن اعرفك في هذه الثياب و هذا الكعب و هذا البرقع الذي لا يوازي حجم برقعك القديم سوى بالربع!!
فتحت المرأة فمها لتتكلم..الا ان العجوز قاطعتها مرةً اخرى
- اخلعي عنكِ مدق القهوة هذا و اجلسي بجانبي لآخذ اخبار سيدتك ..اعني سيدتنا مريم
جلست المرأة و هي تفكر..نعم..جلسة عتاب مطوّله..نعم.. هذا جل ما احتاجه ..
-عمتي مريم في أفضل حال..و قد أمرتني بتسليمك هذه البطاقة شخصياً..و الحرص على ان تأتي
أخذت العجوز تصب فنجان قهوة للمرأة و ناولته اياها قائلة
-لو كانت مريم تهتم لحضوري..لأتت بنفسها لتدعوني..و ماذا هناك؟ هل ستزوج احدى بناتها؟
-لا يا عمتي..انه زفاف عبدالله..سيتزوج ابنة سلطان بن حاسوم..لا بد و انك قد سمعتي به
ابتسمت العجوز التي لم تنتبه سوى ل(انه زفاف عبدالله)..و أخيراً سيتزوج عبدالله..قد طالت عزوبيته لدرجة اني قد خفت ان يكون له علقةً في الخفاء
-كيف اصبح يا خزينة!! كيف اصبح عبدالله؟
-ما شاء الله..ما شاء الله..زينة الرجال
نهضت المرأة و هي تنظر لساعتها قائلة
-فلتسامحيني..فعليّ تسليم الكثير الكثير من البطاقات..و ارجوك..ارجوك بكل من تحبين..ان تأتي لزفافه.
-لماذا!! نستني عمتك و ابنها الذي ربيته كواحدٍ من ابنائي..نسوني حينما عجزت ركبتاي عن حملي لهم ..و قد تعبت من زيارة من لا تهمه زيارتي..فلماذا احضر زفافه!
-لا يا عمة..فليكن قلبك ابيضاً..و لترمي هذه الافكار ورائك..فوالله اننا مشغولون..فعمي راشد يفاجأنا كل يومين بعزومة..بل ان مجلسه لا يخلو من الرجال..و عمتي مريم كحاله..لا تكف النساء عن زيارتها.
فكرت العجوز..اتبيعيني اعذاراً يا خزينة!! قد اتيت لزيارتكم مراتٍ عديدة في الصيف..فلا أجد سوى حارس يبلغني بسفركم الى لندن..تجهزون حقائبكم و تحجزون مقاعدكم الى لندن..و انا..انا من تبعد عنكم بضع شوارع..تعجزون عن زيارتي!
-عمتي فاطمة..يجب أن تأتي فقد أوصتني العمة مريم على أن ألح عليك بالقدوم..
-و كيف يكون ذلك؟ بأن ترمي البطاقة في وجهي يا خزينة و تجري للباب
-أرجوك..سامحيني كنت على عجل..فلتسامحيني يا عمة..
و انهالت على رأس العجوز تقبله
-كفى..كفى..سآتي..سآتي
-جبرالله بخاطركِ..و الآن..سأذهب..و لتسامحيني
-مالها الخلق كلها تستسمح مني اليوم!!
و خرجت خزينة على انغام كعبها الدقيق..خزينة..خادمة بيت راشد ..من يقول ان هذه هي خزينة تلك!! سبحان مغيّر الاحوال!!
عادت الفتيات الى الفناء و ما أن وقعت عينا إحداهن على البطاقة حتى أخذت تقلبها معجبةً بالشرائط التي تلفها و الزخارف الجميلة التي تزيّنها..كانت تحتوي على خريطة لموقع الحفل و بطاقتان..بطاقة لحفل الرجال..و اخرى لحفل النساء
تركت الابنة الكبرى تقليب البطاقة مع أخواتها و جلست أمام العجوز..كانت تفهّم ما يدور..فلطالما سمعت والدها و عمها يتحدثان..هي تعلم..فعلى الرغم من ان الجدة تتحدث دوماً عن عبدالله بحب..الا انه جرح عميق..لم يندمل بعد
-جدتي..هاه..هل ستذهبين؟
- لا أعلم يا ابنتي
- و لكن!! هذا عبدالله..هذا الغالي..هذا الذي أسميتي أخي باسمه..
و فكرت الفتاة..هذا عبدالله الذي لطالما حدثتنا عنه..حتى شعرنا انه كان دوماً هنا..بيننا
اغرورقت عينا العجوز بالدموع..انه اغلى مما تظنين يا ابنتي.أكاد الموت شوقاً لمعرفة كيف هو الآن
-هل رأيت أماً يا حصه يُبعث اليها ببطاقة دعوة لتحضر زفاف ابنها!!
كانت زوجة الابن تقف بالقرب منهم..فقالت
-إن الله أمر بأن نصفي قلوبنا و ننقيها..فلتسامحيهم يا عمة..فلتكن هذه بداية خير..و حبل وصلٍ لا ينقطع
-.. حبل وصلٍ لا ينقطع!! لم أقطع الحبل يوماً يا ابنتي!! هم..هم من افلتوه .و تركوني ممسكةً طرفه بأمل..و مرت السنة تلو السنة..فاهترأ الحبل يا ابنتي..اهترأ و تفتت
..و لم تكد العجوز تنهي حديثها حتى علا صوت الأذان منادياً لصلاة المغرب
انفض الجميع عن السجادة الا العجوز .. جلست وحيدةً تفكر..فيما مضى
.
تحت ظل شجرة السدر العتيقة..جلست تفترش سجادةً حمراء قديمة..و بيدها المليئه بالعروق فنجان قهوة تفوح منها رائحة الهيل و الزعفران.. لم تكد العجوز تنهي فنجانها حتى قبل رأسها و جلس بجانبها.. ممسكاً بيدها الأخرى
ليقول لها بابتسامة:
-مال القمر يجلس وحيداً؟
العجوز و هي تنظر اليه شذراً بعينان احاطهما برقع نيلٍ لامع
-لا قمر يطلع عصراً
قهقه و هو يقبل يدها
- اعلم انك غاضبةٌ مني..لكني والله كنت مشغولاً بأمور المزرعة
-
اخذت ترتشف القهوة ببطء متجاهلةً إياه لبرهة من الزمن..ثم و بنفاذ صبر..وضعت فنجانها الخالي و الذي ملت من التظاهر بأنها ترتشفه..
- ما هذا بعذر..فلديك اليوم بطوله..الم تجد دقيقةً تمر فيها على أمك.. إننا نسكن بيتاً واحداً!!فأين العذر بالله الذي سيعفيك من ذنبك!!
-
اطلق تنهيدةً حارة و هو يفكر في كلمةٍ ترضي هذه الأم الغالية..وضع رأسه في حضنها و هو يتظاهر بالبكاء بصوتٍ مضحك مقلداً الاطفال الصغار
-إن لم تسامحيني فسوف لن أذهب الى المدرسة غداً
اخذت العجوز تضربه على كتفه كابتةً ضحكة كادت تفلت من شفتيها
-قم!! قم عني!! أي مدرسةٍ تلك التي ستقبل بك يا أربعين سنةٍ و نصف
قام عنها و هو يقول
-أتعايريني بالأربعين..يا.........اعجز عن عدهن والله!!
انفجرت العجوز ضاحكةً
-لا حول و لا قوة الا بالله!! انا أمك ..فلتمسك لسانك السليط هذا
عاد لتقبيل يدها و على وجهه امارات الرضى
-لا عدمت هذه الضحكة..نعم..انتي أمي التي لا أحتمل غضبها..فلتسامحيني..انا اعلم اني مقصر
نظرت اليه في حب و هي تقول
-اني راضيةٌ عنك يا بني..راضيةٌ عنك الى يوم الدين
قام و هو ينفض عن ثيابه غبار السجادة القديمة التي ترفض عجوزه التخلي عنها فوالده من اشتراها
-سأذهب الآن الى المزرعة و انا مطمئن البال
ذهب..
و جلست العجوز تفكر..في ابنٍ آخر..تشتاق أحضانها لضمه..ابن..لم تره منذ 20 سنة..آه يا عبدالله..
أرضعتك سنة كاملة..و ربيتك كما لو كنت ابني و احتويتك..فيما امك منشغلةٌ بالبكاء على ابنها الاخر الذي مات
و كنت تناديني بأمي..و لا تنام الا بين ذراعي..و لا تأكل الا من يدي..
فدتك روحي..والله انك هنا..بين أضلعي..أذكر خطواتك الأولى و كلماتك الأولى
أذكر تفاصيلك كلها..الى ان بلغت العاشرة..و بعدها.. بدأت تبتعد !!
انتقلتم الى بيتكم الجديد..و زياراتك انت وامك بدأت تقل..و مدة زياراتكم بدأت تتقلص..و حتى عندما كنت ازوركم..لم تكن هناك!! ولا أمك كانت ترحب بي كسابق عهدها!! فلماذا يا عبدالله..لماذا يا ابني!
اذا كانت هي نست صديقة عمرها و جارتها..فكيف انت تنسى امك..
لا..لا ألومك..فلم تكن سوى طفل..لا ألوم سوى مريم التي تغيّرت منذ أن منّ الله على زوجها بالرزق..صحيح ان راشد كان من علية قومه..الا انه ازداد علواً يوماً بعد يوم..و ابتعد عنا نحن جيرانه..يوماً بعد يوم كذلك
المال لا يغيّر سوى ضعاف النفوس..بيني و بينك الله يا مريم..بيني و بينك الله..أهكذا تنسيني..كنت اكثر من أختٍ لكِ..و كان أبنائك كأبنائي.. اعطيتك من وقتي ما لم اعطه لزوجي و أبنائي..اشفقت عليك من حادثة موت ابنك المؤلمة تلك
فانهلت عليكِ و على ابنائك بالرعاية و الاهتمام..من باب ان لا اخوات و لا ام لكِ..اشفقت عليك لانك عشتي يتيمة ..
ولانك كنتي تصغريني بخمسة عشر سنة..شعرت بالمسؤولية تجاهك
اه يا مريم..لم تكوني بحاجتي..لم تكوني بحاجتي..فها قد التئمت جروحك و طرتي..طرتي بعيداً
حيث لا نراكِ
- عمتي..عمتي
انتبهت العجوز الى زوجة ابنها التي لم تشعر بأنها قد جلست الى جانبها
-مالك يا عمة؟
ابتسمت العجوز و اشارت بيدها الى شجرة السدر التي تعلوها قائلة
-الا ترين ان ظل هذه الشجرة ممتدٌ كثيراً..فمن بحاجة هذا الظل كله!!
-السدرة!مالها!!
-دعيك منها..أين أبنائك! ذهبت للنوم عند الثانية ظهراً و هم يشاهدون التلفاز وها هي ذي الساعة الخامسه وهم لا يزالون أمامه..سيأتي هذا التلفاز على انظارهم و اذهانهم .
نهضت زوجة ابنها لتناديهم دون ان تعلق على كلام العمة ..يبدو انها متضايقة..لكن من ماذا يا ترى!!..
لعل الاطفال يسلونها قليلاً
جلس الاطفال حولها.. ولدان و ثلاث بنات..الاخيرة منهن كانت تلعب بشعرها المنكوش..فنظرت اليها العجوز و هي تهز يدها مشيرةً الى البيت
-هيا..هيا اذهبي و اجلبي لي مشطاً و شيئاً ادهن به هذا الشعر المتطاير
قالت الفتاة ذات الثمان سنوات
-تدهنين به ماذا!! جدتي!! ان المعلمه تغضب حينما ترى هذا الذي تضعينه على رأسي
-لا ..لا..ليست المعلمة..انها انتي التي لا تريدين ان تلجمي هذا الشعر
نظرت الفتاة الى امها علها تساعدها
فقالت الأم
-عمتي..ان المعلمات لا يستسغن رائحته و شكله..ثم ان عليا تلعب في الفناء كثيراً و حينما يكون شعرها مدهوناً تلتصق به حبات الرمال و الغبار بسهولة
أخذت العجوز تتمتم بكلماتٍ لم يفهمها من حولها..لكن ..و من خلال تعابير وجهها يبدو ان الأمر لم يعجبها
جلس الاطفال بجانب جدتهم التي على الرغم من قناع الحزم الذي ترتديه غالباً الا انها تغرقهم بحنانٍ و اهتمام يجعلهم أسيري حبها..
كانت تقص عليهم قصة وعدتهم بإكمالها حينما غلبهم النوم البارحة...و بينما هي كذلك
دخلت إمرأةٌ يطرق صوت كعبها الدقيق أرض الفناء الصغير..وقفت عند السجادة
-السلام عليكم
العجوز و زوجة الابن
- و عليكم السلام
قامت زوجة الابن لتحيي المرأة..أما العجوز فأشارت للمرأة بأن تجلس بجانبها لتحييها قائلة
-حياك الله..و لتسامحيني يا ابنتي فلي ساقين ضعيفتان
لكن المرأة النحيلة قالت
-لا شكراً..أنا مستعجلة..أتيت لأسلمكم هذه البطاقة..هي من بيت راشد بن عبدالله النهّام
قالت حينها زوجة الابن..وهي تنظر الى العجوز بتردد..
-فلتعذروني سأذهب بهؤلاء الشياطين علّي اقنعهم بأن يفتحوا كتبهم قليلاً
و اتجهت الى الداخل مسرعةً..فهي لا تريد عمتها أن تحرج المرأة امام انظار أطفالها الذين لا تفوتهم واردة و لا شاردة..
عادت العجوز بانظارها الى المرأه التي تمد يدها بالبطاقة..تجاهلت العجوز البطاقة الممدوة إليها..وقالت متفحصةً المرأة
- بونهّاش؟
..ارتبكت المرأة
-لا يحب أن يناديه أحد بهذا الاسم..استودعكم الله..فأنا على عجل..و أتمنى حقاً ان تحضري
و رمت البطاقة بجانب العجوز على السجادة..ثم خطت مبتعدة..و قبل ان تصل الى الباب..هتفت العجوز بصوتٍ ناقم
-خزينة!! خزينة!!
كادت المرأة ان تتعثر و تقع على وجهها و لكنها نجحت في البقاء على توازنها..التفتت للوراء..و عادت مسرعةً لتقبل رأس العجوز
-عمتي..عمتي ..فلتسامحيني..انا..انا لم
-انتي ماذا!! أكنتي تظنين اني قد اصبحت عجوزاً قد طال دماغها الخرف!! و اني لن اعرفك في هذه الثياب و هذا الكعب و هذا البرقع الذي لا يوازي حجم برقعك القديم سوى بالربع!!
فتحت المرأة فمها لتتكلم..الا ان العجوز قاطعتها مرةً اخرى
- اخلعي عنكِ مدق القهوة هذا و اجلسي بجانبي لآخذ اخبار سيدتك ..اعني سيدتنا مريم
جلست المرأة و هي تفكر..نعم..جلسة عتاب مطوّله..نعم.. هذا جل ما احتاجه ..
-عمتي مريم في أفضل حال..و قد أمرتني بتسليمك هذه البطاقة شخصياً..و الحرص على ان تأتي
أخذت العجوز تصب فنجان قهوة للمرأة و ناولته اياها قائلة
-لو كانت مريم تهتم لحضوري..لأتت بنفسها لتدعوني..و ماذا هناك؟ هل ستزوج احدى بناتها؟
-لا يا عمتي..انه زفاف عبدالله..سيتزوج ابنة سلطان بن حاسوم..لا بد و انك قد سمعتي به
ابتسمت العجوز التي لم تنتبه سوى ل(انه زفاف عبدالله)..و أخيراً سيتزوج عبدالله..قد طالت عزوبيته لدرجة اني قد خفت ان يكون له علقةً في الخفاء
-كيف اصبح يا خزينة!! كيف اصبح عبدالله؟
-ما شاء الله..ما شاء الله..زينة الرجال
نهضت المرأة و هي تنظر لساعتها قائلة
-فلتسامحيني..فعليّ تسليم الكثير الكثير من البطاقات..و ارجوك..ارجوك بكل من تحبين..ان تأتي لزفافه.
-لماذا!! نستني عمتك و ابنها الذي ربيته كواحدٍ من ابنائي..نسوني حينما عجزت ركبتاي عن حملي لهم ..و قد تعبت من زيارة من لا تهمه زيارتي..فلماذا احضر زفافه!
-لا يا عمة..فليكن قلبك ابيضاً..و لترمي هذه الافكار ورائك..فوالله اننا مشغولون..فعمي راشد يفاجأنا كل يومين بعزومة..بل ان مجلسه لا يخلو من الرجال..و عمتي مريم كحاله..لا تكف النساء عن زيارتها.
فكرت العجوز..اتبيعيني اعذاراً يا خزينة!! قد اتيت لزيارتكم مراتٍ عديدة في الصيف..فلا أجد سوى حارس يبلغني بسفركم الى لندن..تجهزون حقائبكم و تحجزون مقاعدكم الى لندن..و انا..انا من تبعد عنكم بضع شوارع..تعجزون عن زيارتي!
-عمتي فاطمة..يجب أن تأتي فقد أوصتني العمة مريم على أن ألح عليك بالقدوم..
-و كيف يكون ذلك؟ بأن ترمي البطاقة في وجهي يا خزينة و تجري للباب
-أرجوك..سامحيني كنت على عجل..فلتسامحيني يا عمة..
و انهالت على رأس العجوز تقبله
-كفى..كفى..سآتي..سآتي
-جبرالله بخاطركِ..و الآن..سأذهب..و لتسامحيني
-مالها الخلق كلها تستسمح مني اليوم!!
و خرجت خزينة على انغام كعبها الدقيق..خزينة..خادمة بيت راشد ..من يقول ان هذه هي خزينة تلك!! سبحان مغيّر الاحوال!!
عادت الفتيات الى الفناء و ما أن وقعت عينا إحداهن على البطاقة حتى أخذت تقلبها معجبةً بالشرائط التي تلفها و الزخارف الجميلة التي تزيّنها..كانت تحتوي على خريطة لموقع الحفل و بطاقتان..بطاقة لحفل الرجال..و اخرى لحفل النساء
تركت الابنة الكبرى تقليب البطاقة مع أخواتها و جلست أمام العجوز..كانت تفهّم ما يدور..فلطالما سمعت والدها و عمها يتحدثان..هي تعلم..فعلى الرغم من ان الجدة تتحدث دوماً عن عبدالله بحب..الا انه جرح عميق..لم يندمل بعد
-جدتي..هاه..هل ستذهبين؟
- لا أعلم يا ابنتي
- و لكن!! هذا عبدالله..هذا الغالي..هذا الذي أسميتي أخي باسمه..
و فكرت الفتاة..هذا عبدالله الذي لطالما حدثتنا عنه..حتى شعرنا انه كان دوماً هنا..بيننا
اغرورقت عينا العجوز بالدموع..انه اغلى مما تظنين يا ابنتي.أكاد الموت شوقاً لمعرفة كيف هو الآن
-هل رأيت أماً يا حصه يُبعث اليها ببطاقة دعوة لتحضر زفاف ابنها!!
كانت زوجة الابن تقف بالقرب منهم..فقالت
-إن الله أمر بأن نصفي قلوبنا و ننقيها..فلتسامحيهم يا عمة..فلتكن هذه بداية خير..و حبل وصلٍ لا ينقطع
-.. حبل وصلٍ لا ينقطع!! لم أقطع الحبل يوماً يا ابنتي!! هم..هم من افلتوه .و تركوني ممسكةً طرفه بأمل..و مرت السنة تلو السنة..فاهترأ الحبل يا ابنتي..اهترأ و تفتت
..و لم تكد العجوز تنهي حديثها حتى علا صوت الأذان منادياً لصلاة المغرب
انفض الجميع عن السجادة الا العجوز .. جلست وحيدةً تفكر..فيما مضى
.