جريح الحب
21-07-2006, 01:43 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
أُحبُّهم رغم قسوتهم عليّ
ركّز على عمله وأعطاه كل وقته حتى أصبح تاجراً ناجحاً ثم سَخَّر ما لديه من مال من أجل تعليم أولاده في أحسن الجامعات البريطانية، فهيأهم بذلك لمناصب رفيعة طلبت الممرضة من أولاده الحضور لرؤية والدهم بعد أن ساءت صحته لكنهم لم يأتوا إليه فقد شغلتهم الأسهم عن كل شيء
كان جميع من حوله يعتبرونه إنساناً عصامياً، وأنه جدير بالثقة والاحترام رغم أن عمره لم يكن آنذاك يتجاوز ال(11) عاماً، كان «ر» يعمل طباخاً على إحدى سفن الصيد، ومع أن مهمته كانت تنحصر في تحضير الطعام لطاقم السفينة إلا أنه لم يكن يُضيّع فرصة يستفيد منها.
عندما كان يغوص الرجال لاستخراج اللؤلؤ، كان يغوص معهم وكان يلتقط من المحار كمية أكبر مما كان يلتقطه أفضل غواص محترف، ورغم أن أصحاب السفن لا يسمحون لغير الغواصين بالغوص إلا أن صاحب السفينة التي كان يعمل عليها «ر» كان يسمح له بأن يغوص مع بقية الرجال.
وكان صاحب السفينة صديقاً لوالده، وكان «ر» شعلة من الحركة والنشاط والذكاء وكان الجميع يعتمدون عليه في مهام فوق السفينة وداخل البحر ومع صغر سنه وقلة خبرته مقارنة مع من كانوا على السفينة إلاّ أنه كان محل ثقة من الجميع.
آمال كبيرة
كانت آمال «ر» وطموحاته كبيرة للغاية، فقد رسم لنفسه هدفاً سعى جاداً لتحقيقه وهو إعالة والدته وإخوته الصغار الذين تركهم له والده بعد أن مات في إحدى عمليات الغطس أثناء البحث عن اللؤلؤ، فقد هاجمته سمكة قرش كبيرة وقضت عليه قبل أن يتمكن رفاقه من الوصول إليه ومساعدته.
لذا اضطر «ر» لأن يترك «الكتاتيب» ويترك «الملا» الذي كان يحفظ القرآن على يديه، ويتجه نحو البحر باحثاً عن الرزق له ولأسرته دون خوف من أن يلاقي المصير نفسه الذي لاقاه والده، ومع أن ظروف «ر» كانت قاسية وسيئة حيث وجد نفسه مسؤولاً عن أسرة كاملة وهو لا يزال صغيراً.
كان دائماً متفائلاً بالمستقبل، فقد كان يقول باستمرار: «من اعتمد على الله وصل إلى هدفه»، في أحد الأيام لعب الحظ دوره في حياة «ر» فقد طلب منه أحد التجار أن يذهب معه إلى الهند لشراء أقمشة وتوابل وبخور مقابل مبلغ من المال.
فرح «ر» كثيراً بهذا العرض فقد جاءته الفرصة التي كان يحلم بها وينتظرها منذ وقت طويل، ركب «ر» والتاجر الباخرة وتوجها إلى بومباي، حيث قضيا هناك نحو عشرين يوماً، ثم عادا محملين بالكثير من البضائع، وما كادت هذه البضائع تصل إلى السوق حتى بيعت بالكامل، مما شجع التاجر و«ر» على أن يعودا إلي بومباي من جديد لشراء المزيد من البضائع.
لاحظ التاجر مهارة «ر» في البيع والشراء إضافة إلى أمانته وحرصه على مال الغير، مما جعله يطلب منه أن يعمل معه في محله التجاري. وهكذا دخل «ر» عالم التجارة من أوسع أبوابه، مرت الأيام وكبر «ر» وأصبح عمره يتجاوز الـ (22) عاماً كانت خلال هذه الفترة اخواته البنات قد تزوجن ولم يبق عنده في البيت سوى أخيه الذي يصغره بنحو سبع سنوات ووالدته، لذا أصبحت مسؤولياته الأسرية أقل مما دفعه لأن يعطي كل وقته لعمله.
في أحد الأيام طلب التاجر من «ر» أن يذهب إلى بومباي وحده لإحضار توابل وعطور وأقمشة على أن يعطيه التاجر ربع أرباح الصفقة، وافق «ر» على ذلك وذهب إلى بومباي وعاد محملاً بالبضاعة التي درت عليه وعلى التاجر أرباحاً كبيرة. وجد «ر» أن وضعه المادي آخذ في التحسن لذا قرر أن يفتح محلاً خاصاً به، وهكذا كان حيث تمكن في فترة زمنية لا تتجاوز السنين الخمس أن يكوّن ثروة كبيرة، كما ساعدته الظروف الاقتصادية التي شهدتها حقبة ما بعد النفط على زيادة ثروته وتضخمها.
البحث عن الاستقرار العائلي
بعد أن استقرت ظروفه المادية وجد «ر» بأن عليه إكمال نصف دينه وتزوج كريمة إحدى الأسر، وأنجب منها ثلاثة أولاد وثلاث بنات، كان «ر» مثالاً للزوج الصالح والأب الحنون فلم يبخل على زوجته، أو أولاده، بأي شيء فقد أنشأهم في ظل حياة رغيدة، وأسكنهم في فيلا ضخمة أقرب ما تكون إلى القصور ولأن «ر» حرم من التعليم بسبب ظروف موت والده فقد حرص كل الحرص على تعليم أولاده وإدخالهم أفضل المدارس الخاصة وهيأهم بذلك لدخول أفضل الجامعات في العالم.
كبر الأولاد وتخرجوا من الثانوية العامة تباعاً فما كان منه إلا أن أرسل الأولاد إلى إحدى الجامعات في لندن، بينما فضلت البنات الدراسة في الجامعات المحلية، بعد تخرج الأولاد والبنات من الجامعات حصلوا على وظائف مرموقة، وقد كان ذلك بفضل من الله وبفضل الجهود الكبيرة التي بذلها «ر» من أجل تدريسهم وإعدادهم الإعداد الجيد للحياة العملية.
وبعون الله عمد «ر» إلى تزويجهم واضعاً بين أيديهم كل ما جمعه من ثروة ومال كما أعطى كل واحد من الأولاد فيلا بناها خصيصاً له وجعل فلل أولاده الثلاثة في محيط فيلته. في أحد الأيام نظر «ر» حوله فشعر بسعادة كبيرة، فقد أصبح ثرياً ولديه أولاد متعلمين ويشغلون مناصب رفيعة في المجتمع أما بناته الثلاث فقد تزوجن وأصبح لكل واحدة منهن أسرتها الخاصة والأهم من كل هذا أن أولاده حوله يحيطون به كما يحيط السوار بالمعصم، ومما زاد من سعادته أنه بدأ يرى أحفاده يلعبون أمامه على العشب الأخضر الذي ينبسط طولاً وعرضاً أمام فلل أولاده وفيلته.
تغير الحال
بدأ «ر» يشعر بأن صحته ليست على ما يرام وأن الزمن يهاجمه بكل قسوة حاول في البداية أن يتغلب على هذه المشاعر، ولكن كما يقولون «الزمن له أحكام» فقد أخذ نور عينيه يضعف حتى أصبح لا يكاد يرى إلا القليل، أما ساقاه فلم تعودا قادرتين على حمله دون الاتكاء على عصا غليظة، ومما زاد من تعبه أنه فقد زوجته ورفيقة دربه.
ذهب «ر» إلى عدة مستشفيات وأخيراً نصحه الأطباء بأن يذهب إلى الخارج لزراعة الكلى وفعلاً ذهب إلى لندن حيث تمت عملية الزرع هناك، لكن جسد «ر» الضعيف كان يحتاج لأكثر من كلى فقد هاجمه مرض السكري وأصبحت عيناه ضعيفتين للغاية.
عندما عاد «ر» من رحلة العلاج تجمع أولاده وأحفاده من حوله فأعادوا له الحياة والصحة من جديد ورفعوا روحه المعنوية لكن استجابتهم إلى طلبه لم تكن كما يجب. فكل واحد منهم أصبح مشغولاً في حياته الخاصة.
في أحد الأيام وقع «ر» على أرض الحمام فانكسر ساقه، وبعد أن عاد من المستشفى طلب من أولاده أن يبقوا معه، ولكون هذا الطلب لم يكن سهلاً عليهم فقد قرروا أن يتناوبوا على الجلوس معه، نفذ الأولاد ذلك لمدة أسبوع، وبعدها لم يعودوا يهتمون به كثيراً، خاصة بعد أن أحضروا له ممرضة لتلازمه طوال الوقت.
في احدى الليالي اتصلت الممرضة بأولاد «ر» وطلبت منهم الحضور إلى فيلا والدهم، إلا أن أحداً منهم لم يحضر، وذلك بسبب انشغالهم بتداولات الأسهم عبر الانترنت، في اليوم الثاني اتصل «ر» بأولاده وعاتبهم والدموع تملأ قلبه قبل عينيه، وذكرهم بتضحياته من أجلهم وانه كيف بذل كل حياته ونور عينيه وصحته ليصلوا إلى المستوى الرفيع الذي هم فيه الآن،
فما كان من أولاده إلا أن قرروا أخذه إلى إحدى دور رعاية المسنين وإيداعه هناك، ورغم أن الدار رفضت في البداية استقبال «ر» بحجة أن أولاده عليهم مسؤولية رعايته والاهتمام به، إلا أن الأولاد أفهموا المسؤولين في الدار بأن ظروف عملهم وأسفارهم المتكررة خارج البلاد لا تسمح لهم بالاعناء به، وانه من الأفضل أن يجلس في الدار على أن يأتوا كلما سنحت لهم الفرصة لزيارته وأخذه معهم ليعيش بينهم.
في يوم مُشمس
في أحد الأيام ذهبت مع وفد رسمي لتفقد الدار فلفت انتباهي أنا ومن كان معي رجل عجوز كان يجلس بمفرده على كرسي في حديقة الدار، تقدمنا منه وسلمنا عليه وأعطيناه هدية كانت احدى الجمعيات الخيرية قدمتها لسكان الدار، وبعد أن تجاذبنا معه أطراف الحديث سألناه كما سألنا غيره أن يطلب ما يريد، فقال أنا هنا أجد كل رعاية واهتمام وأحب الجلوس في الشمس كما ترون، فكل يوم مشمس هو يوم جديد في حياتي، أما الأيام التي فيها غيوم أو أمطار فتشعرني بالخوف وتذكرني ببيتي القديم، حيث كانت الأمطار تتساقط عليّ وعلى اخوتي ووالدتي من السقف.
أما ما أريده منكم فأرجو أولاً أن تسمعوا قصتي وكيف أتيت إلى هنا، وأما الطلب الثاني فهو أن تقولوا لأولادي أن يأتوا لزيارتي، فقلنا له ارو لنا قصتك، فنحن نستمع إليك، فبدأ يروي لنا قصته التي سردتها عليكم من دون زيادة أو نقصان، وأصدقكم القول بأننا عندما سمعنا قصته لم نتمالك أنفسنا، فقد ابتلت مآقينا بعد أن أنهى «ر» سرده لقصة حياته وتنكر أولاده له في آخر زيارة.
طلب منا أن نبلغ أولاده بأنه يريد أن يراهم، وقبل أن ننصرف من أمامه قال لنا: أرجوكم أن تقولوا لأولادي بأنني أحبهم رغم قسوتهم علي، وقولوا لهم أيضاً إنني لن أزعجهم ولن أطلب منهم أن يأخذوني عندهم، فقط أريد أن أراهم وأنا أجلس على كرسيي هنا في الشمس.
ارجوا العبرة
إعداد: أحمد سلطان
البيان
أُحبُّهم رغم قسوتهم عليّ
ركّز على عمله وأعطاه كل وقته حتى أصبح تاجراً ناجحاً ثم سَخَّر ما لديه من مال من أجل تعليم أولاده في أحسن الجامعات البريطانية، فهيأهم بذلك لمناصب رفيعة طلبت الممرضة من أولاده الحضور لرؤية والدهم بعد أن ساءت صحته لكنهم لم يأتوا إليه فقد شغلتهم الأسهم عن كل شيء
كان جميع من حوله يعتبرونه إنساناً عصامياً، وأنه جدير بالثقة والاحترام رغم أن عمره لم يكن آنذاك يتجاوز ال(11) عاماً، كان «ر» يعمل طباخاً على إحدى سفن الصيد، ومع أن مهمته كانت تنحصر في تحضير الطعام لطاقم السفينة إلا أنه لم يكن يُضيّع فرصة يستفيد منها.
عندما كان يغوص الرجال لاستخراج اللؤلؤ، كان يغوص معهم وكان يلتقط من المحار كمية أكبر مما كان يلتقطه أفضل غواص محترف، ورغم أن أصحاب السفن لا يسمحون لغير الغواصين بالغوص إلا أن صاحب السفينة التي كان يعمل عليها «ر» كان يسمح له بأن يغوص مع بقية الرجال.
وكان صاحب السفينة صديقاً لوالده، وكان «ر» شعلة من الحركة والنشاط والذكاء وكان الجميع يعتمدون عليه في مهام فوق السفينة وداخل البحر ومع صغر سنه وقلة خبرته مقارنة مع من كانوا على السفينة إلاّ أنه كان محل ثقة من الجميع.
آمال كبيرة
كانت آمال «ر» وطموحاته كبيرة للغاية، فقد رسم لنفسه هدفاً سعى جاداً لتحقيقه وهو إعالة والدته وإخوته الصغار الذين تركهم له والده بعد أن مات في إحدى عمليات الغطس أثناء البحث عن اللؤلؤ، فقد هاجمته سمكة قرش كبيرة وقضت عليه قبل أن يتمكن رفاقه من الوصول إليه ومساعدته.
لذا اضطر «ر» لأن يترك «الكتاتيب» ويترك «الملا» الذي كان يحفظ القرآن على يديه، ويتجه نحو البحر باحثاً عن الرزق له ولأسرته دون خوف من أن يلاقي المصير نفسه الذي لاقاه والده، ومع أن ظروف «ر» كانت قاسية وسيئة حيث وجد نفسه مسؤولاً عن أسرة كاملة وهو لا يزال صغيراً.
كان دائماً متفائلاً بالمستقبل، فقد كان يقول باستمرار: «من اعتمد على الله وصل إلى هدفه»، في أحد الأيام لعب الحظ دوره في حياة «ر» فقد طلب منه أحد التجار أن يذهب معه إلى الهند لشراء أقمشة وتوابل وبخور مقابل مبلغ من المال.
فرح «ر» كثيراً بهذا العرض فقد جاءته الفرصة التي كان يحلم بها وينتظرها منذ وقت طويل، ركب «ر» والتاجر الباخرة وتوجها إلى بومباي، حيث قضيا هناك نحو عشرين يوماً، ثم عادا محملين بالكثير من البضائع، وما كادت هذه البضائع تصل إلى السوق حتى بيعت بالكامل، مما شجع التاجر و«ر» على أن يعودا إلي بومباي من جديد لشراء المزيد من البضائع.
لاحظ التاجر مهارة «ر» في البيع والشراء إضافة إلى أمانته وحرصه على مال الغير، مما جعله يطلب منه أن يعمل معه في محله التجاري. وهكذا دخل «ر» عالم التجارة من أوسع أبوابه، مرت الأيام وكبر «ر» وأصبح عمره يتجاوز الـ (22) عاماً كانت خلال هذه الفترة اخواته البنات قد تزوجن ولم يبق عنده في البيت سوى أخيه الذي يصغره بنحو سبع سنوات ووالدته، لذا أصبحت مسؤولياته الأسرية أقل مما دفعه لأن يعطي كل وقته لعمله.
في أحد الأيام طلب التاجر من «ر» أن يذهب إلى بومباي وحده لإحضار توابل وعطور وأقمشة على أن يعطيه التاجر ربع أرباح الصفقة، وافق «ر» على ذلك وذهب إلى بومباي وعاد محملاً بالبضاعة التي درت عليه وعلى التاجر أرباحاً كبيرة. وجد «ر» أن وضعه المادي آخذ في التحسن لذا قرر أن يفتح محلاً خاصاً به، وهكذا كان حيث تمكن في فترة زمنية لا تتجاوز السنين الخمس أن يكوّن ثروة كبيرة، كما ساعدته الظروف الاقتصادية التي شهدتها حقبة ما بعد النفط على زيادة ثروته وتضخمها.
البحث عن الاستقرار العائلي
بعد أن استقرت ظروفه المادية وجد «ر» بأن عليه إكمال نصف دينه وتزوج كريمة إحدى الأسر، وأنجب منها ثلاثة أولاد وثلاث بنات، كان «ر» مثالاً للزوج الصالح والأب الحنون فلم يبخل على زوجته، أو أولاده، بأي شيء فقد أنشأهم في ظل حياة رغيدة، وأسكنهم في فيلا ضخمة أقرب ما تكون إلى القصور ولأن «ر» حرم من التعليم بسبب ظروف موت والده فقد حرص كل الحرص على تعليم أولاده وإدخالهم أفضل المدارس الخاصة وهيأهم بذلك لدخول أفضل الجامعات في العالم.
كبر الأولاد وتخرجوا من الثانوية العامة تباعاً فما كان منه إلا أن أرسل الأولاد إلى إحدى الجامعات في لندن، بينما فضلت البنات الدراسة في الجامعات المحلية، بعد تخرج الأولاد والبنات من الجامعات حصلوا على وظائف مرموقة، وقد كان ذلك بفضل من الله وبفضل الجهود الكبيرة التي بذلها «ر» من أجل تدريسهم وإعدادهم الإعداد الجيد للحياة العملية.
وبعون الله عمد «ر» إلى تزويجهم واضعاً بين أيديهم كل ما جمعه من ثروة ومال كما أعطى كل واحد من الأولاد فيلا بناها خصيصاً له وجعل فلل أولاده الثلاثة في محيط فيلته. في أحد الأيام نظر «ر» حوله فشعر بسعادة كبيرة، فقد أصبح ثرياً ولديه أولاد متعلمين ويشغلون مناصب رفيعة في المجتمع أما بناته الثلاث فقد تزوجن وأصبح لكل واحدة منهن أسرتها الخاصة والأهم من كل هذا أن أولاده حوله يحيطون به كما يحيط السوار بالمعصم، ومما زاد من سعادته أنه بدأ يرى أحفاده يلعبون أمامه على العشب الأخضر الذي ينبسط طولاً وعرضاً أمام فلل أولاده وفيلته.
تغير الحال
بدأ «ر» يشعر بأن صحته ليست على ما يرام وأن الزمن يهاجمه بكل قسوة حاول في البداية أن يتغلب على هذه المشاعر، ولكن كما يقولون «الزمن له أحكام» فقد أخذ نور عينيه يضعف حتى أصبح لا يكاد يرى إلا القليل، أما ساقاه فلم تعودا قادرتين على حمله دون الاتكاء على عصا غليظة، ومما زاد من تعبه أنه فقد زوجته ورفيقة دربه.
ذهب «ر» إلى عدة مستشفيات وأخيراً نصحه الأطباء بأن يذهب إلى الخارج لزراعة الكلى وفعلاً ذهب إلى لندن حيث تمت عملية الزرع هناك، لكن جسد «ر» الضعيف كان يحتاج لأكثر من كلى فقد هاجمه مرض السكري وأصبحت عيناه ضعيفتين للغاية.
عندما عاد «ر» من رحلة العلاج تجمع أولاده وأحفاده من حوله فأعادوا له الحياة والصحة من جديد ورفعوا روحه المعنوية لكن استجابتهم إلى طلبه لم تكن كما يجب. فكل واحد منهم أصبح مشغولاً في حياته الخاصة.
في أحد الأيام وقع «ر» على أرض الحمام فانكسر ساقه، وبعد أن عاد من المستشفى طلب من أولاده أن يبقوا معه، ولكون هذا الطلب لم يكن سهلاً عليهم فقد قرروا أن يتناوبوا على الجلوس معه، نفذ الأولاد ذلك لمدة أسبوع، وبعدها لم يعودوا يهتمون به كثيراً، خاصة بعد أن أحضروا له ممرضة لتلازمه طوال الوقت.
في احدى الليالي اتصلت الممرضة بأولاد «ر» وطلبت منهم الحضور إلى فيلا والدهم، إلا أن أحداً منهم لم يحضر، وذلك بسبب انشغالهم بتداولات الأسهم عبر الانترنت، في اليوم الثاني اتصل «ر» بأولاده وعاتبهم والدموع تملأ قلبه قبل عينيه، وذكرهم بتضحياته من أجلهم وانه كيف بذل كل حياته ونور عينيه وصحته ليصلوا إلى المستوى الرفيع الذي هم فيه الآن،
فما كان من أولاده إلا أن قرروا أخذه إلى إحدى دور رعاية المسنين وإيداعه هناك، ورغم أن الدار رفضت في البداية استقبال «ر» بحجة أن أولاده عليهم مسؤولية رعايته والاهتمام به، إلا أن الأولاد أفهموا المسؤولين في الدار بأن ظروف عملهم وأسفارهم المتكررة خارج البلاد لا تسمح لهم بالاعناء به، وانه من الأفضل أن يجلس في الدار على أن يأتوا كلما سنحت لهم الفرصة لزيارته وأخذه معهم ليعيش بينهم.
في يوم مُشمس
في أحد الأيام ذهبت مع وفد رسمي لتفقد الدار فلفت انتباهي أنا ومن كان معي رجل عجوز كان يجلس بمفرده على كرسي في حديقة الدار، تقدمنا منه وسلمنا عليه وأعطيناه هدية كانت احدى الجمعيات الخيرية قدمتها لسكان الدار، وبعد أن تجاذبنا معه أطراف الحديث سألناه كما سألنا غيره أن يطلب ما يريد، فقال أنا هنا أجد كل رعاية واهتمام وأحب الجلوس في الشمس كما ترون، فكل يوم مشمس هو يوم جديد في حياتي، أما الأيام التي فيها غيوم أو أمطار فتشعرني بالخوف وتذكرني ببيتي القديم، حيث كانت الأمطار تتساقط عليّ وعلى اخوتي ووالدتي من السقف.
أما ما أريده منكم فأرجو أولاً أن تسمعوا قصتي وكيف أتيت إلى هنا، وأما الطلب الثاني فهو أن تقولوا لأولادي أن يأتوا لزيارتي، فقلنا له ارو لنا قصتك، فنحن نستمع إليك، فبدأ يروي لنا قصته التي سردتها عليكم من دون زيادة أو نقصان، وأصدقكم القول بأننا عندما سمعنا قصته لم نتمالك أنفسنا، فقد ابتلت مآقينا بعد أن أنهى «ر» سرده لقصة حياته وتنكر أولاده له في آخر زيارة.
طلب منا أن نبلغ أولاده بأنه يريد أن يراهم، وقبل أن ننصرف من أمامه قال لنا: أرجوكم أن تقولوا لأولادي بأنني أحبهم رغم قسوتهم علي، وقولوا لهم أيضاً إنني لن أزعجهم ولن أطلب منهم أن يأخذوني عندهم، فقط أريد أن أراهم وأنا أجلس على كرسيي هنا في الشمس.
ارجوا العبرة
إعداد: أحمد سلطان
البيان