المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إن كنتم تظنون أن زيارتي لقبر زوجي هي الجنون فأنا سعيدة بذلك



الدانــه
03-06-2006, 12:16 AM
على الرغم من مرور عام كامل على وفاة زوجها لم تنزع موزة لواعج الأحزان عن نفسها بل ظلت على حالها ساهية باكية سراً وعلانية تتذكر زوجها الذي توفي بعد أشهر قليلة من اقترانه بها، ومنذ ذلك اليوم الحزين لم يعرف وجهها الفرح ولم تشتهي نفسها الحلو ولم تجف عيناها من الدموع.

عندما أنجبت طفلها الذي تركه زوجها في أحشائها مضغة اختارت له اسم حميد وخطر لأهل القرية أن من شأن ذلك أن يبعث الفرح في نفسها ويبدد الذكريات الحزينة من قلبها لكن ما حدث كان يعكس ذلك تماماً فقد بدت موزة غارقة أكثر في بحر من الأحزان ونأت بنفسها عن كل محفل فرح أو ترح وعندما عيل صبرها على الهموم خطر لها أن إقامتها إلى جوار قبر زوجها أفضل ألف مرة من أن تكون بعيدة عنه،

فحملت طفلها الرضيع وتأبطت فرشها وقليلاً من التمر والماء ثم توجهت قاصدة المقبرة وتحت ظل شجرة قريبة منها اتخذت لها مجلساً وبعدما نام طفلها وضعته فوق الفراش ودثرته بخمارها ثم ذهبت إلى القبر وجلست عند رأس زوجها، وبدأت تتحدث إليه كما لو كان حياً يرزق عن أيامها الحزينة وحبها الذي لم يكتمل وأمانيها التي لم تتحقق وطفلها الذي لم يره، ثم أسندت رأسها إلى كفيها وأجهشت باكية حتى ابتل تراب القبر بدموعها، وإثر ذلك استيقظ طفلها باكياً فأسرعت إليه ترضعه.

مرت أيام عديدة وموزة على حالها تقيم إلى جوار قبر زوجها فلا تبرحه إلا بعدما تغيب الشمس، وعندما علم أهل القرية بأمرها أصيبوا بالصدمة وخطر لهم أنها أصيبت بالجنون فسعوا لإقناعها بالكف عما تفعل بالمقابر وعندما فشلوا في ذلك طلبوا منها العلاج عند «المطاوعة».

وذات مرة جاءها نفر من رجال القرية وقرعوا باب بيتها طالبين رؤيتها والتحدث معها في أمر مهم، فخرجت إليهم كعادتها حاملة طفلها في حضنها.قال لها أحد الرجال: جئنا لنأخذك إلى رجل فقيه له دراية بشفاء الناس من المس الشيطاني. ردت عليهم بانفعال: من قال لكم إنني مريضة، فإذا كنتم تظنون أن زيارتي لقبر زوجي هي الجنون فأنا سعيدة بذلك، ولا أرغب في العلاج منه، وكل ما أرجوه منكم هو أن تتركوني وشأني.

اندهش الرجال بجرأة موزة، ورأى بعضهم أنها تتطاول عليهم بل لا تعيرهم احتراماً، لكن أحدهم قال: إن الرجل الذي تتعلقين به انتقل إلى رحمة مولاه لذلك ومن الأفضل له أن تترحمي عليه بالدعاء والصدقات. وأما أن تتخذي من قبره بيتاً لك فإن ذلك هو الجنون بعينه.

ردت هي بحزن: صحيح انه فارق الحياة وذهب لملاقاة ربه وأنا مؤمنة بقضاء الله وقدره لكن مع ذلك فهو حي في وجداني أراه وأحدثه و.. لم تستطع أن تكمل حديثها فقد اغرورقت عيناها بالدموع وبدا لها أنها في حاجة للبكاء أكثر من الكلام فأقفلت عائدة إلى داخل بيتها تاركة الرجال عند الباب وهم يتجاذبون أطراف الحديث، وقبل أن ينصرفوا قال أحدهم: يا أهل الخير إذا كانت تظن أنها الأقوى من كل الرجال في القرية فأنا عندي فكرة تطرد الجن منها وتجعلها تقبل بالعيش في البيوت بدل القبور.

أصغى الرجال لكلامه بحرص وبدوا مشدودين لسماع فكرته وانتظروه يحدثهم عنها، لكنه آثر ألا يكشف عنها خوفاً من أن تروق لأحدهم فيسبقه إلى تنفيذها، قال في نفسه: إن قضاء الحوائج في الكتمان من السنة النبوية، لكن أحدهم ألح عليه: يا خوي ما تقول شو عندك وتريحنا مما نحن فيه مع هذه الحرمة المجنونة. مهلاً يا رجال ففي القريب سأعلمكم بكل شيء.

لم تمض سوى أيام قليلة حتى أرسل الرجل صاحب الفكرة امرأة معروفة بعلاقتها الوطيدة مع موزة لتنقل لها نبأ رغبته في الزواج منها، وحين لم تجدها في بيتها ذهبت إليها في المقابر ففوجئت بها جالسة عند قبر زوجها تتمتم بخليط من الكلام والبكاء غير مفهوم، بينما طفلها يغطّ في سبات عميق تحت الشجرة؛ فرقّ قلب المرأة لحال موزة واحتضنتها وأجهشت معها باكية ثم أقفلت عائدة من دون أن تفصح لها عمّا جاءت من أجله.

لكن مع إلحاح الرجل عادت المرأة لزيارة موزة وهذه المرة مساء في بيتها ومع ذلك ترددت كثيراً في مكاشفتها، فكلما أرادت فعل ذلك تذكرت الموقف الحزين الذي رأته في المقبرة فعافت نفسها الحديث عما جاءت لأجله. لكن خطراً لها لماذا لا يكون الزواج مخرجاً لموزة من أحزانها ففرحت المرأة بالفكرة ووجدت نفسها في وضع أفضل لكي تحكي لموزة الموضوع الذي يشغل بالها منذ فترة طويلة.

قالت المرأة وهي تتجه بنظرها إلى الأرض: يا موزة أعلم الظروف المريرة التي تمرين بها، لكن ليس بمقدوري أن أساعدك بأكثر من الكلام والدموع.

ردت عليها موزة:

ـ لا.. لا، من فضلك فأنا سعيدة بحزني على زوجي وأرى أن ذلك يعد واجباً عليّ، بل ان سعادتي تكمن في أن تبقى ذكراه خالدة في نفسي وأن أربّي له طفله خير تربية ليكون صدقة جارية لوالديه.

ـ في الحقيقة عندي لك خبر أريد أخذ رأيك فيه، وما أدري ماذا ستقولين؟

ـ ما هو الخبر؟

ـ طلب مني أحد الرجال أن أنقل إليك رغبته في الزواج منك، ما رأيك في ذلك؟

بدت موزة غير مصدقة ما سمعت وارتسمت حالة من الذهول على وجهها واستسلمت لصمت رهيب اجترّت خلاله شيئاً من ماضيها الحزين، ثم عادت تنظر إلى المرآة وتقول لها بصوت لا يخلو من الحزن والغضب:

ـ اسمعيني جيداً، ما عادت لي من سعادة في هذه الحياة سوى ابني وذكرى زوجي وطاعة ربي.

ـ لكنك لا تزالين في عمر الشباب ولذلك أمامك فرصة عظيمة لتتزوجي وتنجبي المزيد من العيال.

ـ ذلك صحيح، لكن ما أراه مستحيلاً هو أن يكون لي زوج بعد المرحوم أبوحميد، وكل ما أطمع فيه من الخالق هو أن يطيل في عمري لكي أرعى ابني وأحسن تربيته بحيث يكون ابناً صالحاً لنفسه ووطنه وصدقة جارية لوالديه.

ـ أرجوك فكري جيداً في الأمر قبل أن أسمع ردك الأخير.

ـ للأسف فإن ما قلته لك هو كل ما عندي ولولا المودّة التي بيننا لطلبت منك مغادرة بيتي وعدم العودة إليه مرة أخرى، لطالما أنك تتحدثين عن شيء يضايقني، بل يعذبني.

فهمت المرأة مغزى كلام موزة فانصرفت من تلقاء نفسها من دون أن تحظى بكلمة وداع منها.

مرّت السنوات وموزة تواجه ضغوطاً متزايدة تأتيها من كل صوب، لكن ما كان يخفف عنها الأحزان رؤيتها لابنها حميد وهو ينمو سريعاً حتى صار طفلاً يافعاً. وفي أحد الأيام رأت موزة أن وجودها في قريتها لا يخدم مستقبل ابنها، فقررت الرحيل إلى المدينة، حيث فرص التعليم والحياة العصرية فحزمت أمتعتها القليلة ورحلت خلسة من غير أن يعلم بها أحد ونزلت في بيت بالإيجار.

ومن أجل رفاهية وتعليم ابنها عملت خادمة عند أسرة ميسورة الحال، بينما التحق ابنها حميد بإحدى المدارس وتدرج بالمراحل الدراسية كطالب متفوق يحظى بحب وتقدير المعلمين الذين تنبأوا له بمستقبل زاهر. لم يكن عمل موزة كخادمة هيناً عليها، فهي تنهض مبكرة قبل جميع أفراد الأسرة وتتولى إعداد كل ما يلزمهم إلى جانب تنظيف المنزل كاملاً وحمل ما تجمع من أوساخ مسافات بعيدة لوضعها في براميل القمامة وغسل الأواني والملابس بكميات كبيرة وحمل الحقائب المدرسية لأطفال الأسرة المعبأة بالكتب.

وذات مساء أمرتها الأسرة بحمل كيس العيش الذي يزن خمسين كيلوغراماً من سيارة مخدومها إلى داخل المنزل فسقطت على الأرض مغشياً عليها من فرط ألم في ظهرها وجرى نقلها إلى المستشفى فأظهرت الفحوصات الطبية أنها تعاني من متاعب في الغضروف وحذرها الطبيب.

إذا لم تتخلي عن الأعمال المرهقة بدنياً فإن من شأن ذلك أن يصيبك بالشلل عاجلاً أو آجلاً. انتابتها حالة من الرعب بعد سماعها كلمة شلل، لكنها لم تكن على استعداد لتقول شيئاً للطبيب، فهي تدرك حاجتها الملحة للعمل من أجل توفير المال لتلبية احتياجات ابنها ومتطلبات الأسرة المعيشية والسكنية. وأثناء مغادرتها لعيادة الطبيب تحدثت موزة لنفسها:

ليت الأسرة تراعي حالتي الصحية وتوافق على أن أقوم بأعمال خفيفة لا تتسبب في إصابتي بالشلل. لكن الأسرة بدت غير عابئة لما قاله الطبيب لموزة، فقد زادت عليها الأعباء المنزلية بعدما جاءت إحدى بنات الأسرة مطلقة لتقيم في المنزل، ونتيجة لذلك تفاقمت متاعبها الصحية فلم تعد قادرة على الاستمرار في عملها.

بقيت أياماً عديدة حبيسة بيتها تنام على قطعة من الخشب مغطاة بقليل من الفرش امتثالاً لرغبة الطبيب، لكنها في المقابل واجهت متاعب مادية جمة. لم يكن أمام ابنها حميد من خيار آخر سوى أن يترك المدرسة ويبحث عن عمل يوفر له دخلاً يعالج به مشكلات أمه المالية، لكنه فشل في تحقيق ذلك. عادت موزة للعمل فراشة في إحدى مدارس البنات مقابل مكافأة مالية لا تغطي سوى القليل جداً من احتياجات البيت.

وجد حميد نفسه غارقاً في فراغ قاتل، بدأ يبحث عن وسائل تشغله، اصطادته شلة لاهية، ساقته عبر طريق وعر إلى أوكار الدمار، فأصبح خلال فترة وجيزة شارباً للخمر ومدمنا للمخدرات ومعاشراً للمومسات، وعندما يأتي به أصدقاؤه إلى منزل والدته يكون إنساناً محطماً وغائباً عن الحياة تماماً، يجر رجليه جراً، وفي الأحوال التي لا يقوى فيها على النزول من السيارة كان أصدقاؤه يسحبونه عنوة من داخلها ويرمون به عند باب منزله فيستسلم للنوم، حيث نزل.

شاعت أفعال حميد بين الناس وبات الأطفال يفضلون أثناء توجههم إلى مدارسهم المرور من الشارع القريب من منزله لكي يشاهدونه وهو نائم فيضحكون ثم ينصرفون وفي أحايين يتجمهرون حوله. استاء الجيران مما يفعل حميد وهددوا أمه بترحيلها من منطقتهم إن هي فشلت في إقناع ابنها بالعدول عن سلوكه السيئ، لكن موزة لم تجد شيئاً آخر سوى أن تنتظر حين يعود ثملاً لتواريه البيت قبل أن يراه الجيران.

مرت الأيام وموزة تقضي الليل كله وحيدة جالسة على طابوقة اسمنتية عند مدخل منزلها انتظاراً لعودة ابنها من مجالس المخدرات، ولكي لا يداهمها النعاس كانت تحتاط لنفسها بدلتين إحداهما معبأة بالشاي والأخرى بالقهوة، لكن في الليلي المقمرة تنشغل هي عن النعاس بمتابعة حركة القمر وهو يعبر الكون يوزع الضوء على أهل الأرض جميعاً مجاناً فتشاركه الرحيل سارحة مع ماضيها المشحون بالذكريات الحزينة وحين يتوارى خلف السحب تعود بفكرها لتتذكر ابنها الوحيد فتخرج رأسها من الباب علها تشاهد نور سيارة يبشر بعودته.

وفي إحدى الليالي بدت موزة منهكة جسمانياً لكنها مع ذلك جلست إلى جوار الباب تنتظر قدوم ابنها حميد، قاومت بصلابة رغبة النوم تحاول صرع يقظتها. لا تريد أن يراها ابنها إلى جوار الباب في تلك الساعات المتأخرة من الليل فقد حذرها مراراً من قبل، وذات مرة اتهمها بأنها تفعل ذلك لمقابلة الرجال.

وعندما أدركت أن قواها تكاد تنهار تدريجياً تحت وطأة النعاس عادت إلى غرفتها وأخرجت حقيبة تحتفظ فيها بملابس المرحوم زوجها واختارت منها «الغترة» ثم عادت بها إلى الباب ووضعتها على وجهها تستنشق منها رائحة ذكريات تعينها على طرد النعاس من عينيها لكنها سرعان ما انهارت قواها تحت وطأة الإرهاق فاستسلمت لنوم عميق.

وقبل انقضاء الليل بوقت قصير عاد حميد إلى المنزل بجسم يرتجف ورجلين تتراقصان في كل اتجاه حتى كاد يسقط أرضاً لولا انه استند على الحائط وقرب الباب فوجئ بأمه غارقة في نومها لكنه ارتاب أكثر لوجود «الغترة» على وجهها فنازعته خواطر الظنون الشريرة وغلى الدم المشحون بالمخدرات في عروقه وتلفت بعينين كالجمر في كل اتجاه باحثاً عن صاحب «الغترة» وعندما لم يعثر عليه دخل المطبخ وجاء بالسكين وسددها إلى صدر أمه فماتت وهي في انتظاره خائفة عليه من أعين الناس.

عاشقة البداوه
03-06-2006, 03:25 PM
لاحول ولا قوة الابلله ..........

تسلمين الغلا ويعطيج العافيه .........