يـآس
14-12-2006, 11:13 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بينما كنت اتجول في النت عثرة على هذه القصه وسبحان الله في كل ما نصادف نجد عبره
وهذه اسطوره فرعونيه قديمة ولو انها تكلمت عن عصر غير العصر ودين غير دين الله
لكن عظمة الله والعبرة طغت في النهاية
اتمنى ان يعجبكم الاختيار
في أصيل يوم من الأيام كان الشيخ (( حابي )) في بستانه الصغير ، أمام داره المتواضعة يتعهد نخيلاته ، فاسترعى انتباهه خفق أقدام ، فالتفت نحو مصدر الصوت ، فإذا فتى يسير صوبه ، وهو يجر في جهد قدميه المتعبتين ، وقد علاه الغبار ، فاختفت ملامحه ، بيد ان الناظر اليه يستطيع ان يلمح في عينيه على الفور حيرة الغريب .
وكان الفتى يحمل في يده صرة ، فخف الشيخ للقائه ، وما ان اقترب منه حتى سمعه يقول في صوت هامس : الشيخ ( حابي ) ؟
ـ هأنذا … ما مطلبك يا بني ؟
ووجد (حابي) الفتى يتخاذل أمامه ، فاسرع إليه ، واسنده إلى صدره محيطاً اياه بذراعيه ، وقال له : أمريض أنت ؟
ـ بل جائع
و سار به ( حابي ) إلى داره برفق ، وأجلسه بجوار الباب على مصطبة عارية ، و تركه برهة ، ثم عاد إليه بإبريق مملوء لبناً ، فاخذ الغريب يعب منه حتى شبع ، وبعد ان تنفس طويلاً تمتم بكلمات الشكر لمضيفه ، ثم اطرق وقتاً ، وأخيرا رفع رأسه ، وسرح بصره في الشيخ ، والكلمات حيرى على شفتيه .
و ابتسم الشيخ ابتسامة تنطوي على عطف و طيبة ، و قال : تكلم يا بني ، لا تخش بأساً ... ما حاجتك ؟ ان ( حابي ) لا يرد حاجة لغريب .
فامسك الفتى بيد الشيخ ، وضغطها في انفعال ، و قال : لقد حدثوني انك تأتي بالمعجزات ، فسعيت إليك اطلب معجزة .
فتأمل الشيخ وجه ضيفه طويلاً ، يحاول كشف ما خلف تلك الصفحة المتربة التعبة ، ثم قال : معجزة ؟! ... لست كاهناً يا بني !
ـ أنت اعظم من كاهن .
ـ افصح عن غرضك !
ـ ان قوة تعاويذك وعقاقيرك يا أبت من روح الآلهة .
ـ أنا حكيم زاهد ، قد انجح في مداواة النفوس و تطبيب الأجسام .
و حدق الفتى في الشيخ بعين جاحظة ، ثم هبط أمامه وقال وقد تشبث بثوبه : وحق ( ايزيس ) لتنتزعنّ نفسي من بين جوانحي ، ولتلقين بها بعيداً عن جسدي !
ـ هدئ من روعك .
ـ أني امقت هذه النفس الخاملة الميتة ، لتخلقني خلقاً جديداً ولتجعلني رجلاً ذا بأس واقتدار !
و جعل الشيخ يلاطف الفتى ، ثم أنهضه في وداعة ، وأجلسه بجواره ، وبعد حين قال له في هدوء ورزانة : ارو لي قصتك يا بني ... أني مصغ إليك .
و دعم الفتى وجهه براحتيه ، وراح يرسل الطرف أمامه في ذلك الفضاء العظيم حيث يبسط الغسق على الكون غلالته السوداء ، وأنصت برهة إلى ما يحيط به من صمت شامل ، ثم تكلم قائلا : أنا ( راموسي ) ، ولكن ماذا يهمك من اسمي ؟ ان ( راموسي ) نكرة لا يحس وجوده أحد .
ـ تكلم ...
ـ اني اسكن على مسيرة شهر من هنا .
ـ في بلدة ( رنسي ) ؟
ـ نعم .
ـ ذات المعابد الأربعة و المسلات الخمس ؟
فواصل ( راموسي ) حديثه ، و قد رق صوته و ضعف : و حيث تسكن الأميرة (أشمس) !
و طأطأ رأسه حيناً ، ثم رفع عينيه بغتةً و سددها في وجه (حابي) و قال في صوت غير متساوق النبرات : أريد أن أكون عظيماً ... أريد أن أكون مثرياً تزخر خزانتي بالأموال ... أريد ...
فابتسم الشيخ في هدوء و قاطعه قائلاً : انه ليس بالطلب المستحيل .
فاستنار وجه الشاب بلمعة متلألئة ، و قال : إذن ستأتي لي بمعجزة !
ـ ان ما تسميه أنت معجزة يا بني ، اسميه أمرا قد يستعصي على بعض الناس ، ولكنه في مقدور آخرين …
فهوى ( راموسي ) على يدي الشيخ ، و انهال عليهما تقبيلا . و هو يقول : شكراً .. شكراً .. سأذكر ذلك ما حييت ، وسأعوضك عنه أضعافا مضاعفة …
ثم رفع رأسه وقال : أما الآن فليس لي ما أقدمه لك سوى ... وتعثر لسانه بكلمات فسكت ، وأشار إلى الصرة التي بجواره ، وفتحها بيد راعشة أمام ( حابي ) ، فنظر فيها الشيخ فإذا خليط من قطع المعادن ، بينها شيء قليل من الفضة و الذهب ، وتابع ( راموسي) كلامه ، وقد غص من بصره : هي كل ما تبقى لي مما أملك .
ـ أبقها لك .
ـ إنها قليلة ... اعرف ذلك .
ـ لا ، فهي كثيرة إذا كانت منك ، و هذا يكفي ... و لكني لست في حاجة الى عطاء الناس .
ـ أبي !
ونهض ( حابي ) في هدوء ، وهو يقول : ألا ترى يا بني إن المساء قد اقبل يحمل في أعطافه برد الليل و أنا كما ترى شيخ !
وتركا المصطبة ، و دخلا قاعة غير رحيبة ، بسقف منخفض ، تكاد تكون عارية إلا من حصير وغطاء ، وأشعل ( حابي ) مصباحه الزيتي ، ثم جلس وأراح ظهره على الجدار وطوى يده الى صدره ، وجلس ( راموسي ) قبالة الشيخ متربعاً ، لا يفصله عنه إلا المصباح ، و انقضت برهة لم يتكلم فيها أحد منهما، ثم سمع ( حابي ) يردد في صوته الرزين : أني مصغ إليك .
فلم يحول الفتى عينيه عن المصباح ، وقال : كيف أبدأ لك قصتي ، حقاً انه لجنون ما فكرت فيه ، غير أني لست نادماً على شيء …..
لقد كنت أحيا يا أبت متبطلاً ، أخرج من داري المهدمة إلى النهر ، أتنزه على شاطئه حيث بساتين الأمراء أقضي اليوم كله أتنقل بينها أستمتع بمرأى الرياحين ، وأستنشق عرفها الذكي ، فإذا تعبت استرح بجوار الماء ، وأخرجت الناي أناجيه و يناجيني .
ـ أموسيقي أنت ؟
ـ لم اجرب أن أصفر إلا لنفسي .
وأخرج ( راموسي ) من ثنايا ثيابه ناياً من غاب ، ساذج المظهر و أراه الشيخ قائلاً : انه صديقي الذي لا يفارقني أبدا ... صديقي المطلع على سري ، العالم بما يجيش في قلبي من أماني و أطماع .
ـ أماني وأطماع قد تبدو لك بعيدة التحقيق ...
ـ إنني أضعها بين يديك ؛ فافعل بها ما تشاء …
ـ ألم تكن راضياً عن حياتك الهادئة ؟
ـ كل الرضا .
ـ إذن ( هي ) التي غيرت حالك .
ـ نعم هي ( أشمس ) أميرة الأميرات ، و أقربهن صلة بفرعون الأعلى .
ـ أتم حديثك .
ـ رأيتها يوماً تتنزه في بستانها ، فسحرني جمالها من أول نظرة ، رايتها ترتاد الخمائل في حاشيتها ، فجعلت أرقبها خلف دغل من الأشجار ، وأضاءت نفسي فجأة شمس وهاجة كشفت لي دنيا عظيمة كانت مختفيةً عني ، وإذا أنا اقطع عهداً بأنها لن تكون لسواي ، ولما عدت الى داري ، وراجعت هجسات ضميري ، هزئت بنفسي وكلي سخط وألم ، ولكن عهدي ما زال ثابتاً على الرغم من كل شيء ،لا يتقهقر ولا يتزايل ، بل يتقدم في جرأة وإقدام ، ولكن كيف أنفذ ذلك العهد ؟ هذا ما كان يحيرني ويؤلم قلبي ، منذ ذلك اليوم جعلت طريقي إلى بستانها ، لا أعرف سواه ، أقضي على مقربة منه يومي ، أراها ولا تراني فإذا صعدت في قصرها انتحيت نحو الشاطئ و تخيرت مكاناً ظليلاً ، وبثثت شكواي للناي ، فكنت أسمعه أحياناً يهمس لي : ( لماذا لا تحاول التقرب إليها ؟ لماذا لا تكشف لها عن كوامن صدرك ؟ ) .
ـ و لماذا لم تذعن لما أوحى لك به صفيك الناي ؟
ـ أتريد مني أن استمع لذلك الساذج الغرير ؟ ألم اقل لك من هي ؟ إن فيها من دم الآلهة يا أبي ، كلنا نعلم ان عظماء تقدموا إليها بقلوبهم فردتهم خائبين ، لقد أمضيت يا أبت الليالي الطوال أفكر في مصيري معها ،لا بد ان تقع معجزة تحولني من صعلوك بائس ، إلى أمير يفوق جميع الأمراء ، يرضاه فرعون و ترعاه ( إيزيس ) ، وكان أن اشتد بي الضيق يوماً ، فجريت صوب النهر و هممت أن ألقي بنفسي الى التماسيح ، وفي تلك الساعة الفاصلة سمعت هاتفاً يقول لي : ( اذهب الى ( حابي ) الحكيم ، فعنده تتم المعجزة ! ) .
فتمتم الشيخ ( حابي ) : أقال لك الهاتف ذلك ؟
ـ قسماً بإيزيس ، لقد سمعت صوته واضحاً يرن في أذني ، و كانت التماسيح قد خرجت برؤوسها تنظر الي متنمرة ، فوجدتني في لحظة أنفر متراجعاً عن النهر ، وانطلقت أعدو …
أكنت أعدو حقاً ؟ لا ادري ! كنت أحس أني محمول بقوة خارقة غير منظورة ، وفي الغد بعت ما أملك وجمعت مالي ، وحملت زادي ، وسرت وجهة دارك .
فأمسك ( حابي ) بيدي ( راموسي ) و ضغطهما وهو يقول : ستتم المعجزة يا ولدي ... فاعتمد عليّ .
ـ إذن ستجعلني أمير الأمراء ؛ وستجعل من ( أشمس ) زوجة لي ؟
ـ إن علمي لا يتطاول إلى مثل هذه الأمور .
ـ كيف ؟
ـ كل ما أقدر عليه أن أعمل على تغيير نفسيتك .
ـ أوضح يا أبي !
ـ سيتغير فيك كل شيء ... شمائلك الأصيلة ستنقلب الى ضدها : الخمول سيغدو نشاطاً متأججاً ، والقناعة ستكون طمعاً صاخباً ، والرحمة ستفسح مكانها للقسوة والعنف ، ستكون حياتك يا ( راموسي ) كالبركان الفوار ؛ لا يخبو له لهب ، ولا يسكن له زئير !
فطأطأ ( راموسي ) رأسه ، و قال : أبت !
ـ ليس ثمة طريق لما تطلب من ثروة وجاه إلا هذا الطريق .
و صمت ( راموسي ) لحظة ، ورأسه منحن على صدره ، وبغتة رفع وجهه الى ( حابي ) وقال : ولكن .. حبي ؛ حبي للأميرة .. أيعتريه تغير ؟
ـ حبك باق كبقاء الروح الخالدة ، و لكن …
ـ ماذا ؟
ـ أواثق أنك ستكون سعيداً بنفسك الجديدة بعد أن تتم المعجزة ، وأنه لن يراودك الحنين إلى نفسك الأولى ؟
ـ كلا .. كلا .. !
بينما كنت اتجول في النت عثرة على هذه القصه وسبحان الله في كل ما نصادف نجد عبره
وهذه اسطوره فرعونيه قديمة ولو انها تكلمت عن عصر غير العصر ودين غير دين الله
لكن عظمة الله والعبرة طغت في النهاية
اتمنى ان يعجبكم الاختيار
في أصيل يوم من الأيام كان الشيخ (( حابي )) في بستانه الصغير ، أمام داره المتواضعة يتعهد نخيلاته ، فاسترعى انتباهه خفق أقدام ، فالتفت نحو مصدر الصوت ، فإذا فتى يسير صوبه ، وهو يجر في جهد قدميه المتعبتين ، وقد علاه الغبار ، فاختفت ملامحه ، بيد ان الناظر اليه يستطيع ان يلمح في عينيه على الفور حيرة الغريب .
وكان الفتى يحمل في يده صرة ، فخف الشيخ للقائه ، وما ان اقترب منه حتى سمعه يقول في صوت هامس : الشيخ ( حابي ) ؟
ـ هأنذا … ما مطلبك يا بني ؟
ووجد (حابي) الفتى يتخاذل أمامه ، فاسرع إليه ، واسنده إلى صدره محيطاً اياه بذراعيه ، وقال له : أمريض أنت ؟
ـ بل جائع
و سار به ( حابي ) إلى داره برفق ، وأجلسه بجوار الباب على مصطبة عارية ، و تركه برهة ، ثم عاد إليه بإبريق مملوء لبناً ، فاخذ الغريب يعب منه حتى شبع ، وبعد ان تنفس طويلاً تمتم بكلمات الشكر لمضيفه ، ثم اطرق وقتاً ، وأخيرا رفع رأسه ، وسرح بصره في الشيخ ، والكلمات حيرى على شفتيه .
و ابتسم الشيخ ابتسامة تنطوي على عطف و طيبة ، و قال : تكلم يا بني ، لا تخش بأساً ... ما حاجتك ؟ ان ( حابي ) لا يرد حاجة لغريب .
فامسك الفتى بيد الشيخ ، وضغطها في انفعال ، و قال : لقد حدثوني انك تأتي بالمعجزات ، فسعيت إليك اطلب معجزة .
فتأمل الشيخ وجه ضيفه طويلاً ، يحاول كشف ما خلف تلك الصفحة المتربة التعبة ، ثم قال : معجزة ؟! ... لست كاهناً يا بني !
ـ أنت اعظم من كاهن .
ـ افصح عن غرضك !
ـ ان قوة تعاويذك وعقاقيرك يا أبت من روح الآلهة .
ـ أنا حكيم زاهد ، قد انجح في مداواة النفوس و تطبيب الأجسام .
و حدق الفتى في الشيخ بعين جاحظة ، ثم هبط أمامه وقال وقد تشبث بثوبه : وحق ( ايزيس ) لتنتزعنّ نفسي من بين جوانحي ، ولتلقين بها بعيداً عن جسدي !
ـ هدئ من روعك .
ـ أني امقت هذه النفس الخاملة الميتة ، لتخلقني خلقاً جديداً ولتجعلني رجلاً ذا بأس واقتدار !
و جعل الشيخ يلاطف الفتى ، ثم أنهضه في وداعة ، وأجلسه بجواره ، وبعد حين قال له في هدوء ورزانة : ارو لي قصتك يا بني ... أني مصغ إليك .
و دعم الفتى وجهه براحتيه ، وراح يرسل الطرف أمامه في ذلك الفضاء العظيم حيث يبسط الغسق على الكون غلالته السوداء ، وأنصت برهة إلى ما يحيط به من صمت شامل ، ثم تكلم قائلا : أنا ( راموسي ) ، ولكن ماذا يهمك من اسمي ؟ ان ( راموسي ) نكرة لا يحس وجوده أحد .
ـ تكلم ...
ـ اني اسكن على مسيرة شهر من هنا .
ـ في بلدة ( رنسي ) ؟
ـ نعم .
ـ ذات المعابد الأربعة و المسلات الخمس ؟
فواصل ( راموسي ) حديثه ، و قد رق صوته و ضعف : و حيث تسكن الأميرة (أشمس) !
و طأطأ رأسه حيناً ، ثم رفع عينيه بغتةً و سددها في وجه (حابي) و قال في صوت غير متساوق النبرات : أريد أن أكون عظيماً ... أريد أن أكون مثرياً تزخر خزانتي بالأموال ... أريد ...
فابتسم الشيخ في هدوء و قاطعه قائلاً : انه ليس بالطلب المستحيل .
فاستنار وجه الشاب بلمعة متلألئة ، و قال : إذن ستأتي لي بمعجزة !
ـ ان ما تسميه أنت معجزة يا بني ، اسميه أمرا قد يستعصي على بعض الناس ، ولكنه في مقدور آخرين …
فهوى ( راموسي ) على يدي الشيخ ، و انهال عليهما تقبيلا . و هو يقول : شكراً .. شكراً .. سأذكر ذلك ما حييت ، وسأعوضك عنه أضعافا مضاعفة …
ثم رفع رأسه وقال : أما الآن فليس لي ما أقدمه لك سوى ... وتعثر لسانه بكلمات فسكت ، وأشار إلى الصرة التي بجواره ، وفتحها بيد راعشة أمام ( حابي ) ، فنظر فيها الشيخ فإذا خليط من قطع المعادن ، بينها شيء قليل من الفضة و الذهب ، وتابع ( راموسي) كلامه ، وقد غص من بصره : هي كل ما تبقى لي مما أملك .
ـ أبقها لك .
ـ إنها قليلة ... اعرف ذلك .
ـ لا ، فهي كثيرة إذا كانت منك ، و هذا يكفي ... و لكني لست في حاجة الى عطاء الناس .
ـ أبي !
ونهض ( حابي ) في هدوء ، وهو يقول : ألا ترى يا بني إن المساء قد اقبل يحمل في أعطافه برد الليل و أنا كما ترى شيخ !
وتركا المصطبة ، و دخلا قاعة غير رحيبة ، بسقف منخفض ، تكاد تكون عارية إلا من حصير وغطاء ، وأشعل ( حابي ) مصباحه الزيتي ، ثم جلس وأراح ظهره على الجدار وطوى يده الى صدره ، وجلس ( راموسي ) قبالة الشيخ متربعاً ، لا يفصله عنه إلا المصباح ، و انقضت برهة لم يتكلم فيها أحد منهما، ثم سمع ( حابي ) يردد في صوته الرزين : أني مصغ إليك .
فلم يحول الفتى عينيه عن المصباح ، وقال : كيف أبدأ لك قصتي ، حقاً انه لجنون ما فكرت فيه ، غير أني لست نادماً على شيء …..
لقد كنت أحيا يا أبت متبطلاً ، أخرج من داري المهدمة إلى النهر ، أتنزه على شاطئه حيث بساتين الأمراء أقضي اليوم كله أتنقل بينها أستمتع بمرأى الرياحين ، وأستنشق عرفها الذكي ، فإذا تعبت استرح بجوار الماء ، وأخرجت الناي أناجيه و يناجيني .
ـ أموسيقي أنت ؟
ـ لم اجرب أن أصفر إلا لنفسي .
وأخرج ( راموسي ) من ثنايا ثيابه ناياً من غاب ، ساذج المظهر و أراه الشيخ قائلاً : انه صديقي الذي لا يفارقني أبدا ... صديقي المطلع على سري ، العالم بما يجيش في قلبي من أماني و أطماع .
ـ أماني وأطماع قد تبدو لك بعيدة التحقيق ...
ـ إنني أضعها بين يديك ؛ فافعل بها ما تشاء …
ـ ألم تكن راضياً عن حياتك الهادئة ؟
ـ كل الرضا .
ـ إذن ( هي ) التي غيرت حالك .
ـ نعم هي ( أشمس ) أميرة الأميرات ، و أقربهن صلة بفرعون الأعلى .
ـ أتم حديثك .
ـ رأيتها يوماً تتنزه في بستانها ، فسحرني جمالها من أول نظرة ، رايتها ترتاد الخمائل في حاشيتها ، فجعلت أرقبها خلف دغل من الأشجار ، وأضاءت نفسي فجأة شمس وهاجة كشفت لي دنيا عظيمة كانت مختفيةً عني ، وإذا أنا اقطع عهداً بأنها لن تكون لسواي ، ولما عدت الى داري ، وراجعت هجسات ضميري ، هزئت بنفسي وكلي سخط وألم ، ولكن عهدي ما زال ثابتاً على الرغم من كل شيء ،لا يتقهقر ولا يتزايل ، بل يتقدم في جرأة وإقدام ، ولكن كيف أنفذ ذلك العهد ؟ هذا ما كان يحيرني ويؤلم قلبي ، منذ ذلك اليوم جعلت طريقي إلى بستانها ، لا أعرف سواه ، أقضي على مقربة منه يومي ، أراها ولا تراني فإذا صعدت في قصرها انتحيت نحو الشاطئ و تخيرت مكاناً ظليلاً ، وبثثت شكواي للناي ، فكنت أسمعه أحياناً يهمس لي : ( لماذا لا تحاول التقرب إليها ؟ لماذا لا تكشف لها عن كوامن صدرك ؟ ) .
ـ و لماذا لم تذعن لما أوحى لك به صفيك الناي ؟
ـ أتريد مني أن استمع لذلك الساذج الغرير ؟ ألم اقل لك من هي ؟ إن فيها من دم الآلهة يا أبي ، كلنا نعلم ان عظماء تقدموا إليها بقلوبهم فردتهم خائبين ، لقد أمضيت يا أبت الليالي الطوال أفكر في مصيري معها ،لا بد ان تقع معجزة تحولني من صعلوك بائس ، إلى أمير يفوق جميع الأمراء ، يرضاه فرعون و ترعاه ( إيزيس ) ، وكان أن اشتد بي الضيق يوماً ، فجريت صوب النهر و هممت أن ألقي بنفسي الى التماسيح ، وفي تلك الساعة الفاصلة سمعت هاتفاً يقول لي : ( اذهب الى ( حابي ) الحكيم ، فعنده تتم المعجزة ! ) .
فتمتم الشيخ ( حابي ) : أقال لك الهاتف ذلك ؟
ـ قسماً بإيزيس ، لقد سمعت صوته واضحاً يرن في أذني ، و كانت التماسيح قد خرجت برؤوسها تنظر الي متنمرة ، فوجدتني في لحظة أنفر متراجعاً عن النهر ، وانطلقت أعدو …
أكنت أعدو حقاً ؟ لا ادري ! كنت أحس أني محمول بقوة خارقة غير منظورة ، وفي الغد بعت ما أملك وجمعت مالي ، وحملت زادي ، وسرت وجهة دارك .
فأمسك ( حابي ) بيدي ( راموسي ) و ضغطهما وهو يقول : ستتم المعجزة يا ولدي ... فاعتمد عليّ .
ـ إذن ستجعلني أمير الأمراء ؛ وستجعل من ( أشمس ) زوجة لي ؟
ـ إن علمي لا يتطاول إلى مثل هذه الأمور .
ـ كيف ؟
ـ كل ما أقدر عليه أن أعمل على تغيير نفسيتك .
ـ أوضح يا أبي !
ـ سيتغير فيك كل شيء ... شمائلك الأصيلة ستنقلب الى ضدها : الخمول سيغدو نشاطاً متأججاً ، والقناعة ستكون طمعاً صاخباً ، والرحمة ستفسح مكانها للقسوة والعنف ، ستكون حياتك يا ( راموسي ) كالبركان الفوار ؛ لا يخبو له لهب ، ولا يسكن له زئير !
فطأطأ ( راموسي ) رأسه ، و قال : أبت !
ـ ليس ثمة طريق لما تطلب من ثروة وجاه إلا هذا الطريق .
و صمت ( راموسي ) لحظة ، ورأسه منحن على صدره ، وبغتة رفع وجهه الى ( حابي ) وقال : ولكن .. حبي ؛ حبي للأميرة .. أيعتريه تغير ؟
ـ حبك باق كبقاء الروح الخالدة ، و لكن …
ـ ماذا ؟
ـ أواثق أنك ستكون سعيداً بنفسك الجديدة بعد أن تتم المعجزة ، وأنه لن يراودك الحنين إلى نفسك الأولى ؟
ـ كلا .. كلا .. !